عسايَ قد أدركتُ إبّانَ تواجدي الدائمِ رفقةَ برايلين في الآونةِ الأخيرةِ أنني شخصٌ يرتعبُ من التفكيرِ في هَولِ ما قد يُقدِمُ علَيه لأجلِ امرئٍ يحبُّه، لقد احتلَّ هذا الفتىٰ دونَ جُهُودٍ جَلَلَةْ مساحةً عظيمةً في حياتي، ربما للقدرِ الذي يجعلُني أستثقلُ فكرةَ انتزاعِه منها، على الأقلِّ حتىٰ يتعافىٰ، ورغمَ أنني يومًا بعدَ يومٍ أزدادُ يقينًا بأن برايلين طفلٌ مُسالمٌ أُلقيَ به عن عمدٍ في مستنقعٍ يجمعُ كلَّ آثامِ الدُّنيا، وأنه لم يكن أبدًا ليصلَ إلى هذه النقطةِ لو كانَ في دُنياهُ قبسٌ واحدٌ من نور، فإنني أعلمُ كذلكَ أن برايلين قد اقترفَ الكثير، وأستمرُّ بوضعِ المبرِّراتِ الواهيةِ له دونَ كلل.
ورغمَ محاولاتي العابثةِ في إقناعِ نفسي أن لا ذنبَ له في مقدارِ التشوُّهِ الذي أُلحِقَ به في طفولتِه وصِباه، إلا أنّ فكرةَ أنه قد قتلَ چوردون لا تنفكُّ تؤرِّقُني وتتغذّىٰ على قوايَ وعزمي، لا أستطيعُ أن أتصوَّرَه مذنبًا حتىٰ وإن كانَ قاتلًا، ولن أتوَرَّعَ عن مساعدتِه على التعافي حتى وإن بُرهِنَ لي أنه قد فعلَها حقًّا، ربما لذلكَ أخشىٰ أن أسألَه فيُثبِتَ لي أن ما قالَه لم يكن محضَ هذَيان، وتتفاقمُ مخاوفي من أن يأتيَ عليَّ يومٌ لا أستنكرُ فيهِ الخطأَ لأنَّ شخصًا عزيزًا عليَّ قد اقترَفَه، أو أدهسُ فيه الحقَّ لأنّ امرئًا أبغضُه قد ساندَه. هل سيصلُ الأمرُ يومًا إلى كسرِ مبادئي وتجاوزِ حدودي لأجلِه؟ هل يُعقلُ أنني أقتلُ عقلي وضميري وأتبعُ قلبي كالأعمىٰ فحسب؟
ولمّا لم تزِدني الأيامُ إلا حيرةً، فقد قرّرتُ في الفترةِ الأخيرةِ شيئًا، لقد نصَّ الاتفاقُ بيننا على أن أجاوِرَه حتى يتعافىٰ بالكامل، ثم ستكونُ تلكَ نقطةَ النهايةِ في علاقتِنا، سأقتلعُ برايلين ألدوس وتأثيرَه غيرَ المفهومِ من دُنيايَ وأمضي في حياتي الطبيعية التي لطالما عرفتُها، أنا أدري جيدًا متىٰ أوقِفُ قصةً ما ومتىٰ أُبقيها قيدَ الاستمرار. ولكنني الآنَ لن أدَّخِرَ جُهدًا في رحلةِ تعافيه، سأتوقفُ عن التساؤلِ إن كنتُ أفعلُ كلَّ ذلكَ لأجلِه أم لأجلِ سُلَيمان أم لأجلِ مشروعي، وسأتَّبِعُ خططَ العلاجِ الجسديِّ والنفسيِّ والسلوكيِّ بحذافيرِها، هوَ لا يعرقلُني إطلاقًا في هذا المسير، في الواقعِ يُبدي تجلُّدًا يثيرُ إعجابي وفخري رغم أن نوباتِ الألمِ لا ترحمُه ولو وهلةً، مع ذلكَ فإنَّه يعملُ بكلِّ جهدِه كي لا يكونَ سببًا في الإخلالِ بخِطَطي، ويقاتلُ كي لا يتدنّى مستواهُ الدراسيُّ تأثُّرًا بسَقَمِه بعدما بدأَ أخيرًا بالارتفاع، وهذا يجعلُني، مرةً أخرىٰ، شديدَ الفخر، شديدَ الحيرة والتردُّد.
إنه اليومُ الحادي والستّونَ مُذ بدَأ المشروعُ على أيةِ حال، وقد شرعنا في الدَّورةِ الثالثة لتقليلِ نسبةِ المخدَّر، وحسنًا.. الاستجابةُ ليست بهذا القدرِ من السوء، لا أنكرُ أنني شخصيًّا أصابُ بشللٍ جزئيٍ حينَ ينهارُ هوَ، إلا أنني قد بدأتُ أعتادُ التعاملَ أخيرًا، سواءً حينَ يخضعُ للألمِ نهارًا أو يخرِجُه هلاوسًا باللَّيل، لم أكُن أعلمُ أن هلوساتِه وكوابيسَه ستحفِّزُ قدراتِه الاستثنائيةَ على المسيرِ أثناءَ النومِ أكثر، مجددًا ومجددًا وبأوقاتَ أبذلُ قُصاري لأحزرَها فأؤمنُ الوضعَ بما يكفي كي لا يؤذيَ نفسه، تبعًا لذلكَ صارَ نومي أكثرَ خفةً وحساسيةً لأيِّ همسٍ أو نفَس، وهي نقمةٌ أكثرَ من كونها نعمة، ولكنها أيضًا.. بالتأكيد.. نعمةٌ قليلًا.
غالبًا ما يكونُ هنالكَ خطٌ معينٌ لسلوكِه حينَ يستيقظُ من كوابيسِه فزِعًا، عادةً يتخذُني أنا مصدرَ فزعه ويظلُّ ينكمشُ مبتعدًا عني باعتباري چوردون، حتىٰ تساءلتُ فعلًا إن كانَ ثمّةَ تشابهٌ واضحٌ بينَ ملامحنا، غالبًا ما يخفي ذُعرَه غيرَ المبررِ بغضبٍ ساحق، يصرخُ فيَّ أن أذره وشأنه ويهددُني بالقتل، ثم يتوسلُني باكيًا أن أرحمَه، وحينَ أستخدمُ كلَّ مخزوني من الهدوءِ في محاولةِ إعادتِه إلى نقطةِ الاستتباب، إلى حيثُ يدركُ أخيرًا أنه بأمانٍ وأنني إدريس ولن أؤذيَه، أجدُه غالبًا ينهارُ بكاءً على كتفي، وأجدُني -متخذًا دورَ جدٍّ طاعن- أضمُّه وأطمئنه مبعثرًا كلماتٍ سخيفةً كـ«أنتَ بأمان، لا أحدَ هنا غيري، كل شيءٍ سيصيرُ على ما يرام.» حتى تتآكلَ كلُّ قواهُ بفعلِ الإنهاك، فيستغرقُ في نومٍ مستقرِّ الأنفاسِ ويذرني إلى جواره أدوِّنُ كلَّ ملحوظاتي عن مستجداتِ حالته وما قد يفيدُني لاحقًا فيما فاهَ به من فوضىٰ، قبلَ أن أدثره جيدًا وأخمدَ الأضواءَ وأصعدَ أخيرًا إلى سريري.
«ها هما؛ تذكرتانِ في قطارِ الدرجةِ الأولىٰ، ينطلقُ بعدَ خمسَ عشرةَ دقيقة. هل لا تزالُ متعبًا؟»
اجتلسَ المقعدَ المجاورَ لي في استراحةِ محطةِ قطارِ الأنفاق، حيثُ كنتُ أتناولُ شطائرَ الفَطورِ وأرتشفُ قهوتي المثلجةَ على مهلٍ، كنتُ قد طلبتُ منه أن يهتمَّ هو بابتياعِ التذاكرِ كي أساعدَ قليلًا في كسرِ حاجزِ رُهابِه من التعاملاتِ الاجتماعية، وكنتُ أعاني بعضَ الانخفاضِ في ضغطِ الدمِ جرّاءَ تأخيرِ الفطورِ فانتهزتُها حُجّةً كي لا يجادِلني.
«لم أكن متعبًا، كنتُ جائعًا، ثمَّة فارق.»
«حمدًا لله أن المرضَ ليسَ مرتبطًا بالجوعِ وإلا بقيتَ مريضًا للأبد.»
«لا تساعد شيطاني على جعلِكَ طريحَ الفِراشِ للأبدِ واجلس كي تتناول فطورَك.»
انكلَّت ضحكةٌ على شفتَيه بينما يُخرِجُ شطائرَه ويشرعُ في تناولِها هادئًا، فيما أجبتُ أنا اتصالَ عمّي يونُس لأخبرَه أننا سنبلغُ البيتَ في غضونِ ساعتَين على الأكثر، مُلاحِظًا ارتباكَ برايلين لكأنّهُ يراجعُ قرارَه من جديد، لقد استغرقَ الأمرُ مني وقتًا طويلًا حتى أقنعَه بالفكرة، وحمدتُ الله أنني أخطرتُه مبكرًا كي يأخذَ وقتَه في تقبُّلِ الأمر، رغمَ ذلكَ ما يزالُ مترددًا، حتى أثناءَ استقلالِنا القطارَ الذي سيصحبُنا إلى غربِ المدينة، كانَ عليَّ أن أؤكدَ له مئاتِ المرّاتِ أن أحدًا لن ينزعجَ من وجودِه الذي لن يكمل أربعًا وعشرينَ ساعة، وأنه لن يقتحمَ خصوصيتنا كما يعتقدُ لأنّ بيتَ جدي قد شُيِّدَ مقسَّمًا إلى ثلاثةِ أجنحةٍ منفصلةٍ وأنه سيبيتُ في الجناحِ الخاصِّ بأسرتي والذي لن يتواجدَ به سوايَ، ولكنه مع ذلكَ ما يزالُ متشوِّشًا من فكرةِ بقائه في هذه الأجواءِ العائليةِ ولو ليومٍ واحد، على الأرجح لأنّ مفهومَ العائلةِ لدَيه مشوَّهٌ جدًّا.
«إدريس؟»
همسَ لي بعدما استوَينا جالسَين في القطار، همهمتُ مُستجيبًا، فمصمص شفتَيه ورماني بنظرةٍ سريعةٍ صرَفَها قبلَ أن يهمس متعلثمًا: «لا شيء.. أعني... كنتُ أفكرُ إن كانَ عليكَ حقًّا أن... أقصدُ أني...»
أسندتُ وجنتي إلى قبضتي لأُمعِنَ في ارتباكِه جيِّدًا: «ما الذي تريدُه الآنَ يا برايلين؟»
ارتكزت عيناهُ على عينيَّ أخيرًا وقد تورَّدَ وجههُ وتبللت حدقتاهُ بينما يقولُ بدراميّة: «ديناصورًا يأكلُني!»
أهلستُ ضحكةً وأشحتُ بعينيَّ عن خاصَّتَيه متهكمًا، فعادَ هو إلى التحديقِ في النافذةِ ساكنًا لوهلةٍ قبل أن يهمس: «ماذا إن داهمتني إحدىٰ النوباتِ هناك؟ ماذا ستقولُ لهم؟ كيفَ ستبرِّرُ أن شخصًا مثلكَ أنتَ يعرفُ شخصًا مثـ...»
«لقد تحدثنا تسعَ مراتٍ في هذا الشأنِ بالمناسبة، على أيةِ حال فقد اتفقنا أنّا إن كنّا في مكانٍ عامٍ وداهمتك إحدىٰ النوباتِ فكلُّ ما ستفعله هو الاستئذانُ والتراجعُ إلى غرفتي، وسألحقُ بكَ فورًا، وقتئذٍ دع الأمرَ لي. ثم إن عليكَ أن تدركَ أنّكَ لم تُصَب بأيِّ نوباتٍ البارحةَ، عادةً ما تخفُّ الأعراضُ قليلًا في اليومَين الرابعِ والخامس، ونحنُ بالفعلِ في بدايةِ الخامس، لذا لا داعيَ للقلق.»
لم تختفِ العُقدةُ القلِقةُ بينَ حاجبَيه إلا حينَ رفعتُ إبهامي ومسّدتُها لتنفرج، ثم تبسَّمتُ مُثبِّتًا عينيه على خاصَّتَيَّ: «تستطيعُ فعلَها يا فتايَ المثابِر، يومًا ما ستستغني عن ذاكَ السُّمِّ تمامًا، أثقُ بذلك.»
بادلَني الابتسامةَ وقد عادَ اللونُ الحيويُّ إلى وجهه قليلًا، ثم استرخىٰ في كرسيِّه هادئًا. لا يعلمُ برايلين أن إقناعَ عائلتي بحضورِه القصيرِ لم يكن أمرًا عسيرًا أبدًا، عائلةُ تاج معتادةٌ على استقبالِ الضيوفِ من معارفِ عمّي وأصدقاءِ جدِّي وزميلاتِ خالتي، ولطالما كنتُ أنا استثناءً لقلَّةِ علاقاتي الوطيدةِ رغمَ كَوني شخصًا اجتماعيًّا، أنا شخصٌ واسعُ المعارفِ نادرُ الأصدقاء، وقد كسرَ الفتىٰ إلى جواري حدودي تلكَ بكاملِ جبروتِه.
لا خوفَ من ردودِ فعلِ كبارِ العائلةِ على وجودِ برايلين؛ لقد أبدَوا جميعًا حماسًا مناسِبًا على فكرةِ دعوَتِه إلى زيارةٍ قصيرة، الخوفُ الحقيقيُّ من صِغارِها؛ اجتماعُ يعقوب وبرايلين في مكانٍ واحدٍ لن يفضيَ لخَيرٍ قطعًا، ومَريم تكرهُ الغرباء كما تكرهُ الرضيعَ يوسُف بعدما احتلَّ مكانَها كأصغرِ شخصٍ في العائلة، أما سُميّة... ربّاه!
«برايلين.. أردتُ أن أسألَك.. هل تحبُّ الحشراتِ؟»
«ماذا قلت؟!»
بيتُ عائلةِ تاج لا يعدُّ مواكبًا جدًا للتطوراتِ الحاليّة، ليسَ بُرجًا شاهقًا عديدَ الطوابقِ والشقّات، إنما هو بيتٌ فارِهٌ تكوِّنُه ثلاثُ طوابقَ، كثيرَ الأعمدةِ واسعَ النوافذِ الزجاجية شاسعَ الحديقة، تزخرفُه الشرفاتُ خشبيةُ الأبوابِ ويعطيهُ لونُه السُّكَّرِيُّ طابعًا فخمًا، كذا ويحيطُه سورٌ مكوَّنٌ من أعمدةٍ حديديةٍ كثيرةِ الانحناءاتِ بشكلٍ يعطي سمتًا جماليًّا تزركِشُه الورداتُ المُطلَّةُ من الحديقة.
«السلامُ عليكَ يا هارون!»
هارون حارسُ البوابةِ الشاب، وهو ابنُ السيدةِ أُمامة التي تساعدُ خالتي حليمة في أعمالِ المنزل، تعطيهِ بذلةُ الأمنِ المدنيِّ شيئًا من الحزمِ الذي لا يتناغمُ مع ابتسامتِه التي تنفرجُ لحظيًّا ما إن أصافحه، ويقولَ لكأنه عجوزٌ في التسعين: «وعليكَ السلام أيها اليافع، كبرتَ يا إدريس؛ واشتدَّ عودُك.»
«لم أغِب إلا شهرَين وبضعَ أيام!»
«سنواتٌ عجافٌ لو درَيتَ! حللتَ وضيوفَكَ أهلًا. العائلةُ بأكملِها تنتظركما.»
لسببٍ ما ألفيتُ كفَّ برايلين تشتدُّ على ساعدي، رمىٰ عليَّ نظرةً لامعةً وهمسَ: «هل هذا عمُّك؟ماذا عليَّ أن أقول؟»
بادلتُه الهمسَ بينما أهبُّ بالدخولِ بعدما فرَجَ هارونُ البوابة: «هذا هارون، أحدُ معارِفِ العائلة، يعملُ هنا منذُ زمن. وليسَ عليكَ أن تقولَ شيئًا، تعامل بتلقائيّة.»
لم يبالغ هارونُ حينَ نوَّه أن العائلةَ بأكملها كانت تنتظرُنا، كانوا أجمعينَ يتحلَّقونَ حولَ المنضدةِ الدائريةَ العامرةِ بالفواكِه بجوارِ النافورةِ التي تتوسط الحديقة، تشبَّث بي برايلين أكثرَ في الوقتِ الذي هبُّوا فيه بتزامنٌ مع دخولي، اختلجَ شيءٌ ما في داخلي بينما أدرِكُ أنني قد عدتُ إلى موطني الصغيرِ فعلًا، هذا هو البيتُ الذي نشّأَتني جدرانُه وآوَتني كلماتُ أهلِه قبلَ أحضانهم، وهؤلاءِ القومُ قومِي.
لم أستطع أن أكملَ التمعُّنَ في الصورةِ البهيّةِ التي رسمتْها وقفتُهم أمامَ البيت، عمّي يونُس يستقيمُ بطولِه الفارعِ ممسكًا مقبضَ الكرسيِّ المتحركِ الخاصِّ بجدّي تاج، خالتي حليمة واقفةٌ إلى جوارِه بحجابِها المارونيِّ تحملُ يوسُف بينَ ذراعَيها وتختبئُ مريم بفستانِها الورديِّ الصغيرِ خلفَها متمسكةً بطرفِ ثوبِ أمها ومُلقيةً على برايلين نظراتِ مُقتٍ وحذر، وتجلّىٰ السببُ في قطعِ المشهدِ عليَّ أن يعقوبَ قد انقضَّ قافزًا فوقي وصارخًا باسمي، لم أستطع إلا أن أتأوَّهَ ضاحكًا بينما أبادلُه حُضنَه الشرِسَ كي أهدِّئَ جذوةَ حماسِه، وسرعانَ ما تخلَّت مريمُ عن حذرِها حينَ جثوتُ فاتحًا ذراعي الآخر لأضمَّها في العناقِ الضيق المبالِغِ في العاطفة.
«حسنًا يا أولاد! ثمّة امرؤٌ يريدُ أن يتفقدَ صغيرَه هنا، ابتعدوا قليلًا إذا سمحتُم!»
كانَ استقبالًا صاخبًا على أيةِ حال، بشكلٍ جعلَ حرارةَ وجنتيَّ تتضاعفُ حينَ تقدَّمَ عمّي وخالتي مع جدِّي، اقتطفَني الأولُ من بينِ أولادِه ليحتضنَني وأكَّدَ أننا لن ننتهي من عبثِ الأطفالِ إن تركناهما على راحتهما، قبّلتُ رأسَ جدّي وتناولتُ يوسُفَ من بينِ يدَي خالتي حينَ مدَّ ذراعَيهِ نحوي مع ضحكةٍ رنّانة، وتبسّمت خالتي حينَ استكانَ في حضني وغمغمت: «عدتَ مُعافًى يا صغيري.»
«معافًى بمرآكم يا خالتي.»
ثم تلقائيًّا وجّهتُ عينيَّ نحوَ برايلين، ما جعلَهم جميعًا ينتبهونَ لوجودِه بالتَّبعيّة، فصدَحَ صوتَ جدِّي ذو البحةِ الهادئةِ مُرَحِّبًا: «أنرتَ بيتَ تاج يا برايلين، حللتَ بينَ أهلِكَ.»
كنتُ عالمًا أنه سيظلُّ لوهلةٍ متخشِّبًا بلا صوتٍ أو نفَس، يلقي على جدِّي نظرةً حائرةً قبلَ أن يركِّزَها على عمّي الذي تقدَّمَ نحوَه مادًّا يدَه، بالكادِ أرسلَ كفًّا مهتزّةً غيرَ متوقعٍ أن ينتشلَه عمّي إلى حضنِه في اللحظةِ التي يقبضُ فيها راحَتَه، ووجدتُني أضحك.
«لم أرَ سُميّة!»
انبهت خالتي إلى اختفاءِ ابنتِها ذاتِ السنواتِ الخمس، سُميّة الابنةُ الثانية بعدَ يعقوب، والتي تلتها مريم ذاتُ السنوات الثلاث، من ثمَّ أتانا يوسُف، الذي لم يُتمِم بعدُ عامَه الأولَ.
«يا لَصغيرتي المشاغبة! لا شكَّ أنها تعبثُ في الحديقةِ كعادتِها، اجلسا، الشايُ والكعكُ ثم البحثُ عن سميّة.»
لا أحدَ يُجادلُ أوامرَ خالتي حليمة، تبعًا لذلكَ قد جاورتُ عمّي في مجلسِه وجذبتُ برايلين ليحاذيني، وصبَّت خالتي الشايَ الأحمرَ في الفناجينِ وقرَّبت منا صحنَ حلواها الناعمةِ بالشوكولا والفراولة، وبالطبعِ لم ينتظر برايلين أن أرسلَ له أمرًا ما إن داعبَ اللونُ اللامعُ للشوكولا عينيه، سرعانَ ما التقطَ قطعةً وتذوَّقها قبلَ أن يتورَّدَ قليلًا فأعرفَ أنها قد أعجبتْه، ربما عليَّ أن أفكِّرَ جدِّيًا في كونِ لونِ عينيه قد اقتُبِسَ من الشوكولا الفاتِحة.
«هل تُفضِّلُ أن أضيفَ بعضَ الحليبِ الدافئِ يا برايلين؟ أم تحبُّ الاكتفاءَ بوُرَيقاتِ النعناع؟»
لم يستجِب فتايَ الأخرقُ لكلماتِ خالتي، ظلَّ يحدِّقُ في كوبِ الشايِ أمامَه دونَ أن يرمش، فضحكتُ أجيبُ عنه: «بعضُ النعناعِ سيفي بالغرض، برايلين لا يحبُّ الحليبَ إلا مع الكاكاو.»
رماني بنظرةٍ حادةٍ لحظيّة، ثم غمغم بشكرٍ خافتٍ لا أظنُّه قد بلغَ أذنَي خالتي، فيما استهلَّ عمِّي الحديثَ: «كيفَ تسيرُ الأمورُ في آندستريال؟ أريدُ أن أسمعَ أخبارَكما بالتفصيلِ الدقيق.»
كانَ برايلين قد مالَ عليَّ أثناءَ حديثِ عمي؛ ليهمسَ: «هل أبدو قليلَ الذوق؟ لم يكن عليَّ أكلُ الحلوىٰ؟»
«تبدو أبلهًا قليلًا فحسب، تعامَل بأريحيّة.»
ثم رفعتُ صوتي: «الأكاديميةُ لها مميزاتٌ عديدة، توفرُ لطلّابِها العديدَ من الوسائلِ التعليمية عبرَ الوسيلتَين النظريّة والعمليّة، كما أنها توفرُ مختلفَ النشاطاتِ الرياضيةِ والثقافيةِ والفنّية، أنا وبرايلين قد انضممنا لفريقِ كرةِ القدم.»
رفعَ عمّي حاجبَيه السوداوَين الكثَّين، وسألَ مستحسنًا: «وأيَّ فريقِ كرةِ قدمٍ تشجِّعُ يا برايلين؟»
نكزتُ مُجاوري كي يتحمحم ويردَّ بالكاد: «فريقَ ستيلارد الأسود.»
نكزتُه من جديدٍ حتى شعرتُ أنني قد ثقبتُ جدارَ معدتِه، هذا الفتىٰ لا ينتوي أن يصونَ لسانَه ويحترمَ الكبيرَ كما يبدو!
«لم أسمع بهذا الفريقِ قبلًا!»
«يقصدُ الفريقَ الذي انضممنا إليه يا عمي، مدرِّبُنا يُدعىٰ ستيلارد، وهو رجلٌ داكنُ البشرة.»
تصاعدت قهقهاتُ جدِّي فتبسّمتُ مسرورًا، ولم يقطع اللحظةَ اللطيفةَ إلا كائنٌ غزيرُ الفروِ صغيرُ الوجهِ بارزُ الأسنانِ ألصِقَ بوجهي بغتةً، ومن خلفِه كانت الصغيرةُ شعثاءُ الشعرِ الأشقرِ محمرَّةُ الخدَّين المنتفخَين وقد اتسعت ابتسامتُها وبرقت خضراوتاها بمزيجِ الفرحِ واللهفةِ بينما تلهثُ كلماتِها: «سنجاب! حيوانُ إدريسَ المُفضَّل!»
«مَن هذه الطفلةُ المتشرِّدة؟! ما الذي تمسكينَه بينَ يدَيكِ بربِّ إدريس؟!»
«سُمية! صغيرتي إن إدريس يحاولُ أن يشربَ شايَه بسلامٍ، أبعدي الفأرَ اللطيفَ الآن!»
لم أفعل إلا أن ابتسمتُ ومددتُ يدي متجاوزًا السنجابَ لألتقطَ ورقةَ شجرٍ كانت عالقةً بينَ خصلاتِها، متكلمًا: «أفضِّلُ السناجِبَ فعلًا، ولكن ليسَ على الفطور؛ ماذا عن أعادتِه إلى شجرتِه بعضَ الوقـ...»
بالكادِ كتمتُ صيحةَ فزعٍ وأحاطَ ذراعايَ غريزيًّا بها وبِـبرايلين لأبعِدَهما عن الكائنِ الذي قفزَ طائرًا فوقَ النضدةِ متسببًا في سكبِ كوبِ شايٍ وبعضِ السكَّر، دنت صرخةٌ مندهشةٌ من مريم بينما يُتابِعُ السنجابُ قفزاتِه إلى شجرتِه ونشيِّعُه جميعًا، وانتبهتُ أخيرًا أن لا ضرورةَ لكلِّ هذا القدرِ من الدراما لأن السنجابَ ليسَ ضاريًا أو مؤذيًا، وببطءٍ فككتُ خناقَ الحضنِ الذي ضاقَ بغتةً على سميةَ وبرايلين وقد شعرتُ ببعضِ الحرجِ حينَ ضحكَ جدِّي وخالتي حليمة على الموقف، ابتعدَ برايلين تدريجيًّا حتى استوىٰ على كرسيِّه من جديدٍ بينما أراقبُ تغضُّنَ ملامحِ عمي يونُس؛ بطبيعته يكرهُ كل الكائناتِ الصغيرة ويتصنمُ غاضبًا حينَ تمارسُ سُميةُ هوايتَها الغريبةَ في استكشافِ العالمِ حولَنا.
انخرطوا في التهكُّمِ على ما جرىٰ ضاحكين، وانتشلتني من إحدىٰ نكاتِ جدِّي همسةُ برايلين بينما يرميني بنظرةٍ لم أفهمها: «لم يكُن ليؤذيَني.»
«أعلم، كان مفزعًا أن أراهُ يفردُ جناحَيه ويقفزُ لذا.. تحركتُ بغريزةِ الحماية دونَ تفكيرٍ مَلِيْ. تفضلُ التفاحَ أحمرًا أم أصفرًا؟»
«لا أريد.»
«حتىٰ أنا أفضِّلُه أصفرًا.»
التقطتُ واحدةً مع سكينةٍ وشرعتُ بتقطيعِها إلى شرائح، كانَ ثمةً نظرةٌ مستنكرةٌ وحاجبانِ مرتفعانِ بانتظاري ما إن عرضتُ عليه القطعة الأولى، فتنهدتُ مصرَّحًا: «الفواكهُ تحوي عناصرَ مهمةً جدًا، وهي غيرُ متوفرةٍ بكثرةٍ في الأكاديمية.»
في النهايةِ أذعنَ وتناولَها فتبسمتُ وناولتُ سُميّةَ قطعةً قبلَ أن أعودَ إلى تقطيعِ الثمرةِ مستمعًا لسؤالِ جدي لبرايلين إن كانَ يملكُ هو الآخر بعضَ الهواياتِ الغريبة، رميتُه بنظرةٍ مستمتعةٍ جدًّا متمعنًا في اعتصارِه لشفتَيه ارتباكًا ما إن تجمَّعت عليه كلُّ الأنظار، غيرَ متوقعٍ أنه سيوجِّهُ باصرَيه نحوي، ويتساءلُ لكأنما يغشُّ سؤالًا بامتحان: «ما هي هواياتي الغريبة؟»
رفعتُ حاجبيَّ متبسِّمًا ثم تكلمتُ بصوتٍ عالٍ لأستفزَّ هدوءَه المزعج: «يهوىٰ استجلابَ المشاكل، لا يحلو له اليومُ إلا حينَ يزيِّنُه بمصيبة.»
لم أستطع إلا أن ضحكتُ حينَ توهَّجَ وجهه بالاحمرارِ وهتفَ فوريًّا: «هذا لا يجعلُنا ننسىٰ كمَّ الأشياءِ الغريبةِ التي تهواها أنتَ! السناجبُ والأبنيةُ القديمة ورائحةُ الأوراقِ وجدراياتُ الشوارعِ وأعمدةُ الإنارةِ والأهلَّةُ النهاريّة ومئاتُ العجائبِ التي لا يجمعُ بينها جامع!»
شاعت الضحكاتُ كالعدوىٰ، وشرعَ برايلين ينفتحُ على الأجواءِ روَيدًا روَيدًا، يجيبُ الأسئلةَ ويطرحُها ويهلسُ ضحكاتِه وتتوهجُ تعبيراتُه، وتردَّتني البهجةُ أكثرَ بينما أبصِرُه يتعاملُ بشيءٍ من الأريحيةِ مع جمعٍ من الناس دونَ أن يبدوَ متقلِّقًا أو أن يشدَّ على يدي بين فينةٍ وأخرىٰ ويشفنني بنظرةِ أريدُ أن أرحل الآن، علمتُ أن أصلَ عُقدَتِه أنه لا يستطيعُ أن يرىٰ الخيرَ في الناسِ بعدما عايشَ في صِباهُ النسَخَ الشيطانيّةَ منهم، وقد حرصتُ سالفًا على تمهيدِ الحِوارِ ليناسبَه حينَ أخطرتُهم هاتفيًّا بتجنُّبِ الحديثِ حولَ مسائلِه العائليةِ لأنّ والدَيه منفصلان، لذا سارَ الحديثُ بسلاسةٍ حتى أنهَينا جلسةَ الشاي، واستأذنّا بعدها لتبديلِ ملابسِنا لأخرىٰ منزلية.
يقعُ الجناحُ الخاصُّ بأسرَتي في الطابقِ الثاني، وقد اعتنت الخالةُ أُمامة بتوضيبِ غرَفِه قبلَ مجيئنا، تبعًا لذلكَ اتجهتُ فوريًّا إلى الخزانةِ لأنتقي بعضَ ما فيها، وتصنّمَ هو في وسطِ الغرفةِ مقلِّبًا بصرَه في تفاصيلِها التي تغرقُها آشعةُ الشمسِ المتسللةُ من النافذةِ الزجاجيةِ والشرفةِ المُشرَعة، لطالما كانت خالتي حليمة معارضةً للاستضاءةِ بالكهرباءِ نهارًا، تقولُ أن نورَ اللّٰه هو الذي يكفي البيوتَ شرَّ الظلام، وأنَّ نورَ الناسِ خافتٌ وإن عظُمَ.
«انتقِ ما يلائمُكَ يا برايلين، أعلمُ أنّكَ تفضلُ الدواكِنَ لسببٍ لا يعلمُه إلا ربّي في سماه، ولكنّكَ لن تجدَ هذه الخدمةَ متوفرةً هنا.»
شزرَني بنظرةٍ ممتعضةٍ فرفعتُ حاجبيَّ متهكمًا، كنتُ قد اتفقتُ معَه سالفًا إلا نحضِرَ إلا حقيبتَين صغيرَتين تكفيانِ متعلقاتِنا الشخصية لأنّ ملابسي هنا تكفي كلَينا، إلا أنه سرعانَ ما استغنىٰ عن رغبتِه في الجدالِ حينَ انتزعتُ الحقيبةَ عن كتفِه ووضعتُها مجاورةً لخاصَّتي على العلّاقةِ الخشبيّة، اجتلسَ السريرَ وغمغم بينما يرجعُ البصرَ فيما حولَه: «حسنًا.. لا أريدُ أن أبدوَ لكَ متملِّقًا ولكنني فعلًا أحبُّ تنسيقكَ للألوان، لم أعلم قطُّ أن الكحليَّ والأزرقَ يتناغمانِ مع البرتقاليِّ والأبيضِ حتى دخلتُ غرفتك، كيفَ تُبقي علىٰ كلِّ ما يتعلَّقُ بكَ أخّاذًا بهذا الشكل؟»
تنحنحتُ متصنعًا الحرَجَ وإن رغبتُ بالضحكِ للأمانة، ثم وثبتُ إلى جوارِه وربّعتُ قدميَّ متجولًا بمقلتيَّ في الغرفةِ التي أحفظُ تفاصيلَها إذ رسمتُها بنفسي، الأبيضُ يطغىٰ على جدرانِها بينما يتشاركُ الكحليُّ والبرتقاليُّ أغطيةَ السريرِ ولونَ الخزانة، وينزوي المكتبُ الناصعُ مجاورًا للمكتبةِ الصغيرة، مرورًا بالمرآةِ والكومودِ والمصابيحِ المتوزِّعة في الأنحاء.
«لا تغترَّ لهذه الدرجة يا إدريس، لن أبالغَ إن قلتُ لكَ أنني لسببٍ لا أفهمُه أفضلُ علبةَ الكبريتِ في آندستريال أكثر.»
«طبيعي؛ لأنها المكانُ الذي رأيتَني فيه للمرةِ الأولىٰ.»
«رأيتُكَ للمرةِ الأولىٰ في صفِّ چيلوسيل، وتعلمُ بالطبعِ كم أحبُّ صفَّ چيلوسيل. أنا هنا أتحدثُ على لقائي بليلىٰ، هذا ما يجعلُ آندستريال بأكملها مكانًا محترمًا.»
«يا للشاعريّة! أرِني إن كانت ليلىٰ ستنفعُكَ في توضيحِ ما لا تفهمُه في صفِّ چيلوسيل إذًا!»
«لا تأخذ الكلامَ على محملِ الجدِّ يا إدريس، أعني.. لا شيءَ في الدُّنيا يُضاهي مكانةَ صفِّ العلمِ في قلبِ طالبِ العلم!»
ضحكتُ بينما أراهُ يحمرُّ فوريًّا ما إن حسبَ أنني قد استأتُ، فتنهدَ عائدًا بعينينِ متردِّدَتَين نحوَ قطعِ ملابسي، ثم تخيَّرَ سترةً صفراءَ ذاتَ قلنسوةٍ مع بنطالٍ كحليٍ وهمهم لي بأن أرشِدَه إلى حمامِ الجناح، غيرَ أنه لم يكمل الطريقَ إلى خارجِ الغرفةِ متسمِّرًا أمامَ المكتبةِ وقد بدا في عينيه أنه قد لحِظَ شيئًا لفتَه، وبعدَ تدقيقٍ هيِّنٍ علمتُ أن الغلافَ المميِّزَ للمصحفِ المتوسِّطِ لكُتُبِ مكتبتي قد جذَبَ ناظرَيه.
«اللغةُ العرَبيّة؟»
همسَ متسائلًا بينما يدنو من المكتبةِ، فهمهمتُ منتظرًا توضيحًا أفضل...
«عنوانُ هذا الكتابِ.. إنه عرَبيٌّ، أليست تلكَ اللغةَ الأخرىٰ التي تجيدُها؟»
عدتُ لأقفَ خلفَه وأتأمَّلَ ما يتأمَّلُه، وأجبتُ: «لا أجيدُ العربيّة، أتعلَّمُها كي أقرأَ القرآنَ وأفهمَه كما ينبغي، ولكنني لا أتحدثُها بطلاقة.»
«وهذا هوَ القرآن؟»
كانَ خبرًا أكثرَ منه سؤالًا، كان يعلمُ الإجابةَ رغمَ كلِّ الفضولِ في عينيه.
«بالضبط.»
«أستطيعُ أن أراهُ قليلًا؟»
«بالطبـ... أعني.. لا؛ تعالَ معي أولًا.»
شعرتُ أنني بدوتُ أبلهًا قليلًا لفرطِ مَسَرَّتي بطلَبِه، ثم لم أعطِه الفرصةَ ليجيبَ إذ جذبتُه إلى حمامِ الجناح، وضعتُ الملابسَ جانبًا ورفعتُ كُمَّيَ أمامَ الحوضِ قبلَ أن أسدلَ الماء، ثم حدَّثتُه: «اتَّبِع ما أفعلُه خطوةً خطوة.»
حاولتُ أن أضبطَ نفسي قليلًا بينما أراهُ يتوضَّأ، وأزجرَ عنّي ما راودَني من خيالاتٍ تمركزت حولَ فكرةِ أنه يومًا ما قد يفعلُها وحدَه دونَ الحاجةِ لرفعِ عينيه نحوي بعدَ كلِّ خطوة، قد يصلُ برايلين يومًا ما إلى النقطةِ التي تنتشلُه من دائرةِ ضعفِه المقرونِ بوِحدتِه الدائمةِ إلى تواجدِ اللّٰهِ السَّرمدِيِّ معه، حينذاكَ لن أشعرَ بالذنبِ ولن أخافَ انتكاسَه حينَ تفترقُ طُرُقُنا، لأنني سأضمنُ قبلَها وصولَه إلى برِّ الأمان.
عُدنا للوقوفِ أمامَ المصحفِ بعدَ أن حسرنا الماءَ عنّا بالمناشِف، هذه النسخةُ من القرآن تمتازُ بهامشٍ واسعٍ خُطَّت فيه ترجمةُ الآياتِ بلغتنا، أخرجتُ المصحفَ من غلافِه الخشبيِّ المذهبِ ثم أسكنتُه على المكتبِ، وهمستُ لبرايلين أن: «يمكنكَ أن تفتحَه.»
توقعتُ أنه سيفتحُ صفحةً وسطيّة عشوائيًّا، إلا أنه قد فتحَ صفحاتِه الأولىٰ على مهل، ثم دنىٰ بعينيه ليتمعّنَ في المكتوب، قبلَ أن يرفعهما نحوي منتظرًا بعضَ الشرح.
«فاتحةُ الكتاب، تُسمّى المثاني كذلك؛ لأننا نقرأُها في كلِّ صلاة، لا تصحُّ الصلاةُ دونَ حفظِها.»
خفضَ عينيه إلى الترجمةِ يقرأُها بِعناية، توقعتُ منه بعضَ الاستفساراتِ بشأنِ الكلماتِ التي يستصعبُها، إلا أنه قد بدا مُدقِّقًا للحدِّ الذي جعله يتجاهلُ وجودي تقريبًا، في النهايةِ لم يطلِب مني إلا أن أقرأَها بالعربيّة، ثم سألَني عن الطرقِ التي أتَّبِعُها في الحفظ.
«السماعُ المقرونِ بالتفسير، تقولُ خالتي حليمة أن اللّٰه قد نزَّلَ الكتابَ كي نحفظَه قولًا وعملًا، بمعنىٰ أن الحفظَ إن لم يكن مقرونًا بالفهمِ لن يكونَ التحصيل؛ لأنني سأحفظُ ما لا أفهمُه وتبعًا لذلكَ لن أعملَ به، لذا أسمع الآياتِ ثم أقرأُ تفسيرَها حتىٰ أفهمها بالشكلِ الذي يخوِّلُني لأشرحَ هذا التفسير، ثم أعيدَ السماعَ وأدقِّقُ في النطقِ حتى أنطقِها بالشكلِ الصائب، ثم عليَّ بالمراجعةِ فيما بعدُ كي لا يتفلَّتَ من ذاكرَتي، وبهذا يكونُ الحفظُ.»
لم أعلم ماهيّةَ النظرةِ التي غمرت عينيه حينَ أنزلَهما من جديدٍ ليتأمَّل رسمَ الآيات، وانتابتني بعضُ الحيرةِ حين ارتجفت على شفتَيه ابتسامةٌ صغيرةٌ بينما يهمس: «أنا أغبطُكَ فعلًا يا إدريس لأنّكَ وُلِدتَ على مثلِ هذه الأرضِ الصلبة، للمرةِ الأولىٰ أشعرُ أنّ الحظَّ قد حالفَني لأنني التقيتُكَ في نهايةِ هذا المطاف.»
ثم انسحبَ إلى الحمام.
عادَ بعدَ ما يوازي العشرَ دقائق، ولم يكد يستوي جالسًا على السريرِ إلا وقد تناهت إلى مسمعَينا طرقاتٌ على البابِ، سرعانَ ما أذنتُ بالدخولِ ليتبدّى من خلفِه يعقوبُ مع ابتسامةٍ كبيرةٍ اضمحلَّت تدريجيًّا ما إن وقعت عيناهُ على برايلين، بدَّلَ ناظرَيه بيننا بحدةٍ حينَ تبسَّمتُ له مُحتفِيًا: «تعالَ يا يعقوب!»
ألفيتُه قد ضمِّ حاجبَيه بعدائيةٍ بينما يقتربُ مني سريعًا دونَ أن ينتزعَ عينيه عن برايلين، ثم بغتةً قفزَ جالسًا في حجري وهمسَ بصوتٍ مسموع: «لمَ هذا الفتىٰ الغريبُ في غرفتك؟ حُجرةُ الضيوفِ تجاورُ صالةَ الاستقبالِ بالأسفل، أنتَ تعلم.»
رفعتُ حاجبيَّ وتبسّمتُ كي أحكمَ غيرتَه قبلَ أن تشتعلَ: «برايلين صديقي، سيبيتُ هنا في غرفتي.»
زمَّ شفتَيه وضيق عينيه أكثر: «صديقك؟ وأين ستبيتُ أنتَ؟»
«في غرفةِ سُليمان.»
«ولمَ لا يبيتُ هو في غرفةِ سُليمان؟ ولمَ يرتدي ملابسـ...»
«كفاكَ يا يعقوب! أنا لن أكملَ هذا الاستجوابَ دونَ وجودِ مُحاميَّ الخاص، اجلسا الآنَ وتناغما قليلًا حتىٰ أبدِّلَ ملابسي، أنتما متشابهانِ جدًا بالمناسبة.»
وضعتُه إلى جوارِ برايلين ونهضتُ لأمَدِّدَ جسدي، ثم وقفتُ لأنتقيَ ملابسي حينَ وجدتُ برايلين يهمسُ لي متوجِّسًا: «هل من الطبيعيِّ أن يحدِّقَ فيَّ بهذا الشكل؟»
صرفتُ ناظريَّ لأبصرَ يعقوبَ وقد ركَّزَ عينينِ متشكِّكَتَين على برايلين، ثم قامَ واقفًا وأمسكَ بيدي قسرًا وهتف: «أنا أوسمُ منه بالطبع! لا يوجدُ أيُّ شبَهٍ حتى! شعري يشبهُ الشمسَ وشعرُه يشبه الليل، كما أنه متوردٌ بشكلٍ غريب.»
«هذا يكفي يا يعقوب! لمَ تُشعِرُني أننا نبحثُ عن زوجةٍ لكَ أو لَه؟ أنا الآخرُ شعري أسودُ إن لم تلحظ! وبشرتُه تمتازُ بلونٍ دافئٍ لا...»
«ما هذا السخفُ الذي تحدِّثُه عنه بربِّك؟ هل تناقشُ طفلًا لم تبلغ قامتُه ذراعَين كاملَين في آرائهِ؟»
اتسعت حدقتا يعقوب وتوهجَ الأخضرُ فيهما بالسُّخطِ قبلَ أن يصرخَ واثِبًا فوقَ برايلين: «أتقصدُ أنني قصير؟ هل هذا ما تعنيه؟ ما الحالُ إن لم يكن إدريسُ يشبهُ ناطحةَ السحابِ إلى جوارك؟»
تحركتُ تلقائيًّا لأنتشلَ الصغيرَ الذي نشبَ بعنقِ الآخرِ وكأنني قد نشَّأتُ سفَّاحًا: «أنا من يتمُّ شتمُه هنا يا يعقوب! تحلّىٰ بالأدبِ ولا تشعرني أن جهودي في تربيتِكَ طوالَ سنواتٍ سِتٍ قد ذهبت سُدًى! ابتعد عن برايلين!»
ولم تستطع روحُ الطفلِ داخلَ برايلين إلا أن تبزُغَ هي الأخرىٰ: «عساكَ تحسبُ نفسكَ كنغرًا يا هذا! أنا أضع اعتبارًا لإدريس فقط! ابتعد عني فورًا يا شبيهَ الوطواطِ الوغد!»
«يا ربَّ السماوات.»
في النهايةِ اضطررتُ إلى صفقِ كليهما بالسريرِ كي ينشغلَ كلٌ منهما بنفسِه عن نتفِ شعرِ الآخر، أنا مقتنعٌ تمامًا أن برايلين ويعقوب يمتلكانِ ذاتَ العقلية، ولكنني تناسيتُ أن الأقطابَ المتشابهةَ تتنافر!
«سأذهبُ لتبديلِ ملابـ...»
«سآتي معك!»
«اجلس يا يعقوب ولا تُفقدني بقايا عقلي! ستأتي معي إلى الحمام؟! ابقَ هنا حتىٰ أعود، وأقسمُ بربِّ العرشِ أني لن أستشيرَ العقلَ إن خرجتُ ووجدتُكما تتشاجران!»
حسبتُ أن القدَرَ قد حالفَني حينَ لم أسمع لجبَ معركةٍ في الخارجِ في الدقائقِ الثلاثِ الأولىٰ، إلا أنني قد انتفضتُ فزعًا مع تواترِ طرقاتٍ متوترةٍ على الباب، سمعتُ على أثرِها صوتَ يعقوب: «إدريس! الفتىٰ الغريبُ يبدو متعبًا جدًّا! ماذا أفعل؟ هل أنادي أمي؟»
ارتعدت فرائسي، تركتُ شعري الذي كنتُ قد سدلتُه قبلًا وبالكادِ أكملتُ ارتداءَ قميصي البرتقالي حين توالت الطرقاتُ بشكلٍ أكثرَ جنونًا، كانَ برايلين شخصيًا هو من هرعَ إلى داخلِ الحمامِ ما إن فتحتُ، واتجهَ إلى المرحاضِ ليجثوَ أمامَه راكعًا، ويتقيَّأَ كلَّ ما تناولَ منذُ الصباح.
.