༄I will always choose you out of everyone༄
❄︎❄︎❄︎❄︎❄︎❄︎❄︎
𖤍
𖤍
𖤍
𖤍
أخذتني أمي بالسيارة إلى المطار... كانت نوافذ السيارة مفتوحة... درجة الحرارة 23 درجة في فينيكس. وكانت السماء زرقاء تماماً خالية من الغيوم.
كنت أرتدي قميصي المفضل، قميص أبيض مخرم بلا أكمام، لقد إرتديت هذا القميص على سبيل الوداع فقط، أمَّا ما كُنتُ سَأرتَديه بَعد ذَلِك فهو مُجرّد سترة من الفرو لها قبعة..
في شبه جزيرة أولَمبيك عند أقصى شمال غرب ولاية واشنطن، وتحت غطاءٍ دائمٍ من الغيوم تَقبع بلدة صغيرة تُدعى فُوركس، يَهْطِلُ من الأمطار في هذه البلدة عديمة الأهمية أكثر مما يهطل في أي مكان آخر من الولايات المتحدة الأمريكية...
ومن هذه البَلْدة وظِلالها الكاحِلَة في كل مكان، هربت أمي بي عندما كان عمري بضعة أشهر فقط، وفي هذه البَلدة كنت مجبراً على قضاء شهر كل صيف إلى أن بلغت الرابعة عشرة، إنه السن الذي صار لي فيه رأي أخيراً، ففي الأصياف الثلاثة الماضية جاء أبي •تشَارلي• ليَمضي معي عطلة تَمْتدُّ لأسبوعين في كاليفورنيا بدلاً من ذهابي إليه في فوركس..
والآن أَنْفِي نفسي إلى فوركس.. وهذا ما أَقْدَمْتُ عليه بخوف، أنا أكره فوركس كرهاً شدیداً.
لقد أحببت فِينِيكس، أحببت الشمس والحرارة المرتفعة، أحببت هذه المدينة النشطة الممتدة في كل اتجاه.
قالت أمي لي قبل أن أصعد إلى الطائرة...كانت تلك المرة الألف.
"جيمين لست مضطراً إلى فعل هذا" أمي تشبهني في كل شيء إلا في شعرها القصير والخطين اللذين يرتسمان على وجهها عندما تضحك شعرت بنوبة من الرعب عندما حدقت في عينيها الواسعتين الطفوليتين.
كيف لي أن أترك أمي المُحبة الطائشة غريبة الأطوار حتى تتدبر أمرها بنفسها؟
إن ڤِيلْ بصحبتها الآن أي أن الفواتير سَتُسَدَّدْ على الأرجح، سيكون في الثلاجة طعاماً، وسيكون لديها وقود في سيارتها وشخص تتصل به إذا تاهت.
لكن مع ذلك ... كذبت قائلاً " أريد أن أذهب....!!" لم أكن أحسن الكذب أبداً، لكني كررت هذه الكذبة كثيراً في الآوِنة الأخيرة إلى حد جعلها شبه مقنعة الآن.
" بلِّغ سلامي إلى تشارلي.. "
" سأفعل "
أصرت أمي قائلة " أراك قريباً.. يمكنك أن تأتي إلى البيت متى أردت.. سأكون دائماً موجودة بمجرد أن تحتاج إلي "
"لا تقلقي علي سيكون الأمر رائعاً..أحبك أمي "
احتضنتني بقوة مدة دقيقة كاملة ثم صعدت إلى الطائرة ... مودعاً أمي .
تستغرق رحلة الطائرة أربع ساعات من فينيكس إلى سياتل، تليها ساعة أخرى بطائرة صغيرة حتى لوس آنجلس، ثم ساعة بالسيارة حتى فوركس. الطيران لا يزعجني، أما الساعة التي سأمضيها في السيارة مع تشارلي فكنت قلِق منها بعض الشيء.
كان تشارلي لطيفاً حقاً، وقد بدا عليه سرور حقيقي بمجيئي للعيش معه مدة طويلة للمرة الأولى، لقد سجلني في المدرسة الثانوية، وسوف يساعدني في الحصول على سيارة.
لكني متأكد من أن الوضع سيكون غريباً عندما أعيش مع تشارلي، ما كان أحد ليستطيع وصف أَيْ منا بأنه كثير الكلام مع أني لم أكن أعرف ما الذي يمكنني الحديث عنه أعرف أنه إرتبك بعض الشيء بسبب قراري فأنا لم أكن أحتفظ بكرهي لفوركس سراً ... مثلما فعلت أمي من قبلي.
كان المطر يهطل عندما حطت الطائرة في لوس آنجلس، لم أرى في هذا فَأْلَ شُؤم بل مجرد أمر لا سبيل إلى تجنبه، لقد ودعت الشمس وداعاً أبدياً قبل سفري.
كان تشارلي ينتظرني في سيارته الكبيرة، وهذا ما كنت أتوقعه.
أيضاً.... يعمل تشارلي رئيس شرطة في خدمة أهل فوركس الطيبين، وقد كان دافعي الأول إلى شراء سيارة رغم قِلة نقودي هو رفضي التجول في البلدة مع سيارة عليها أضواء حمراء وزرقاء، لا شيء يُبطئ حركة المرور كما يُبطئها وُجود شرطي.
إحتَضنني تشارلي على نحوٍ غريب بذراع واحدة عندما نزلت متعثراً من الطائرة.
قال لي مبتسماً وهو يمد يده تلقائياً حتى يمسكني ليجنبني السقوط " لطيف أن أراك يا جيمين! لم تتغير كثيراً... كيف حال مارسِلين؟؟ "
" أمي بخير... لطيف أيضاً أن أراك يا أبي..."
لم يكن مسموحاً لي أن أدعوه تشارلي في حضوره.
كانت حقائبي قليلة فمعظم ملابس أَرِيزُونَا خفيفة لا تصلح لولاية واشنطن، لقد جمعنا ما لدينا من مال أنا وأمي، حتى أستكمل ملابسي الشتوية، لكنها ظلت قليلة رغم ذلك ...
اتسع صندوق السيارة لجميع حقائبي بكل سهولة أكثر مما ظننت.
عندما جلسنا في السيارة وربطنا الأحزمة قال أبي "وجدت سيارة جيدة من أجلك.. إنها رخيصة حقاً"
شعرت بالريبة من طريقة قوله سيارة جيدة من أجلك بدلاً من الاكتفاء بعبارة سيارة جيدة.
" وما نوعها..؟؟ "
" حسناً... إنها شاحنة صغيرة في الواقع من نوع تشيفي ! "
"أين وجدتها؟؟"
" هل تتذكر بيلي بلاك الذي كان في لابوش؟؟ "
"لا"
قال تشارلي محاولاً تذكيري "كان يذهب معنا إلى صيد السمك في الصيف"
هذا يوضح سبب عدم تذكري هذا الرجل فأنا مَاهر في حجب الأشياء المُزعجة غير الضرورية عن ذاكرتي.
تابع تشارلي عندما لم أجبه " إنه يستخذم كرسيا متحركاً الآن ولم يعد يستطيع قيادة السيارة، لذلك عَرضها علي بِسعرٍ بَخِس.."
" وماهي السنة التي تَم صنعها فيها؟؟ "
كان واضحاً لي من تَغَيُّرِ تعبير وجهه أن هذا هو السؤال الذي كان يَرْجوا أن لا أطرحه.
" حسناً..لقد اشتغل بيلي كثيراً على المحرك..عمرها سنوات قليلة في الحقيقة"
هل يَستهين بي إلى درجة تجعله يظن أنني سوف أتوقف عن السؤال عند هذا الحد؟ " متى قام بشرائِها؟؟ "
" أظن أنه قام بشرائِها في عام 1984 "
" وهل اشتراها جديدة؟؟ "
أجابني مذعناً " لا أعتقد أنها كانت جديدة أوائل الستينات أو أواخر الخمسينات على أبعد تقدير.."
" آه... أبي، أنا لا أعرف شيئاً عن السيارات، ولا أستطيع إصلاحها إذا تعطل شيء فيها، ولا أستطيع دفع حتى أجور ميكانيكي لإصلاحها... "
" حقاً يا جيمين، إن هذا الشيء يعمل بشكلٍ ممتاز. لم يعودوا يصنعون سيارات مثلها الآن "
هذا الشيء!! قُلت في نفسي.. ثمة احتمالات هنا لَعَلَّهُ الاسم الذي يطلقونه عليها تحبباً على الأقل.
"قُلتَ أنها رخيصة..فكم هي رخيصة؟ بعد كل حساب،هذا هو الأمر الذي لا أستطيع المساومة عليه.."
استرق تشارلي نظرة جانبية إلي والأمل باد على وجهه " يا عزيزي، لقد اشتريتها بالفعل... اشتريتها من أجلك.. اعتبرها هدية بمناسبة مجيئك "
أوه ... مجاناً!
" لم يكن عليك أن تفعل هذا يا أبي كنت أَعْتَزِمْ شراء سيارة بنفسي.."
" لا مانع لدي أريدك أن تكون سعيداً هنا فقط "
كان ينظر إلى الطريق أمامه عندما قال هذه الكلمات،
لم يكن تشارلي يرتاح للتعبير عن مشاعره علناً، لقد ورثت هذا الأمر منه.
لذلك رحت أنظر إلى الطريق أمامي عندما أجبت " هذا لطيفٌ منك حقاً يا أبي.. شكراً لك... أشكركَ فعلاً "
لا حاجة للقول أن من المستحيل أن أكون سعيداً في فوركس ما كان عليه أن يعاني معي، وما كنت لأرفض سيارة مجانية مهما كان وضعها.
غمغم أبي وقد أحرجه شكري " جيد، أهلاً بك الآن.."
تبادلنا عبارات قليلة عن الطقس الرطب ... وكان ذلك كل حديثنا، ثم رحنا نحدق من النوافذ صامتين.
كان المنظر جميلاً طبعاً، وما كان لي أن أنكر جماله، كل شيء أخضر اللون، الأشجار وجذوعها التي تغطيها الطحالب وتتدلى من أغصانها، والأرض المغطاة بالسراخس، بل إن الهواء نفسه كان يمر أخضر اللون عبر أوراق الأشجار.
كان ذلك كله أخضر أكثر مما يجب ... يا له من كوكب غريب.
وصلنا أخيراً إلى منزل تشارلي، مازال يعيش في المنزل الصغير الذي فيه غُرْفَتَا نوم، والذي اشتراه مع أمي أول أيام زواجهما، ما كان في زواجهما كله إلا تلك الأيام ... أيَّامَهُ الأولى.
وأمام المنزل الذي لم يتغير أبداً كانت شاحنتي الصغيرة الجديدة تقف في الشارع...لا بأس، إنها جديدة بالنسبة لي، كان لونها أحمراً باهتاً ولها مصدات كبيرة مُنحَنية ومقصورة محدبة، فوجئت حقاً بأنني أحببتها، لم أكن أعلم إن كانت تسير فعلاً لكنني رأيت نفسي جالساً داخِلها، كما أنها كانت من تلك السيارات الحَديدية الصلبة التي لا يلحق بها الأذى أبداً ... سيارة تراها في الحوادث وقد أَصابت الخدوش طلاءها بينما تتناثر من حولها قطع السيارة التي اصطدمت بها.
" لقد أحببتها يا أبي.. شكراً لك! "
الآن، سيصبح يومي المخيف غداً أقل رعباً بقليل فلن أقف محتاراً أمام خيار المشي مسافة مَيْلَيْن تحت المطر خلال طريقي إلى المدرسة، أو قبول الركوب في سيارة رئيس الشرطة.
قال تشارلي بصوت أجش وقد أصابه الحرج من جديد " يُسعدني أنك أحببتها "
حملنا جميع أمتعتي إلى الطابق الأعلى دُفعة واحدة، أخذت غرفة النوم الغَرْبِية المُطِلة على ساحة المنزل الأمامية، كانت الغرفة مألوفة لي فهي غرفتي منذ ولادتي.. الأرضية الخشبية والجدران الزرقاء الفاتحة والسقف المدبب والستائر المصفرة المخرمة تَحُفُّ بالنافذة من الجانبين.
كان هذا كله جزءاً من طفولتي، لم يقم تشارلي بتغيير أي شيءٍ في الغرفة التي ترعرعت داخلها، إلا أنه وضع سريراً بدلاً من المهد وأضاف طاولة للكتابة، تحمل هذه الطاولة الآن حاسوباً مستعملاً يمتد منه خط الهاتف على الأرض إلى أقرب مأخذ في الجدار. كان هذا بطلب من أمي حتى أتمكن من التواصل معها بسهولة، وكان الكرسي الهزاز من أيام طفولتي لا يزال موجوداً في الزاوية.
في المنزل حمام صغير واحد عند قمة السلم كان علي أن أستعمله مع تشارلي، ولم يكن من السهل التأقلم كثيراً مع هذه الحقيقة.
من أفضل الأشياء في تشارلي هو أنه لا يُبارح كثيراً مكانه، لقد تركني وحيداً حتى أرتب أشيائي وأشعر بالاستقرار في الغرفة، إنه أمر فريد من المستحيل تماماً أن يبدر من أمي، لطيف أن أظل وحدي الآن دون اضطرار إلى أن أبتسم أو أبدو سعيداً، ومريح أيضاً أن أنظر مكتئب من النافذة لأرى المطر المتواصل الغزير وأسمح لبعض الدموع بأن تفلت من عيني. لم أكن في مزاج مناسب لنوبة بكاء حقيقية فوفرتها حتى آوي إلى فراشي ويكون علي أن أفكر في الصباح الآتي.
في مدرسة فوركس الثانوية عدد مخيف من الطلاب يبلغ ثلاثمئة وسبعة وخمسين طالباً فقط ثلاثمئة وثمانية وخمسين الآن. في مدرستي السابقة كان في الصف الأول الثانوي وحده أكثر من سبعمئة شخص . لقد ترعرع جميع الأولاد هنا معاً؛ وكان أجدادهم يلعبون صغاراً معاً أيضاً. وسوف أكون الفتى الجديد القادم من المدينة الكبيرة. سأكون فُرجة في المدرسة،
شخصاً عجيباً تماماً
لو كنت أبدو كما يجدر بفتى من فينيكس أن يبدو لكان بوسعي أن أستخدم هذا لمصلحتي، لكنني لم أكن لأناسب أي مكان من ناحية مظهري الجسدي.
يجب أن أكون أشقر رياضي لَوَّحَتْهُ الشمس، لاعب كرة طائرة أو ربما مشجع فريق رياضي، أي كل تلك الأشياء التي تتناسب مع العيش في وادي الشمس.
لكن جلدي كان أبيض باهت بلون العاج وليس لدي حتى عينان خضراوان أو شعر أحمر رغم الشمس الدائمة، كان جسديي رشيقاً على الدوام، لكنه كان رخواً على نحو ما، مؤكد أنه ليس رياضياً، ولم يكن لدي التنسيق الضروري بين اليد والعين الذي لا بُد منه حتى أستطيع ممارسة الألعاب الرياضية دون إذلال نفسي أو دون إيذاء نفسي وكل من يقف قريباً مني.
عندما أنهيت وضع ملابسي في خزانة خشب الصنوبر القديمة، أخذت حقيبة ضروريات الحمام وذهبت إلى الحمام المشترك حتى أنظف نفسي بعد عناء السفر الطويل.
نظرت إلى وجهي في المرآة ومررت أصابعي في شعري المبلل المتشابك، لعل الضوء هو السبب، لكنني بدوت أكثر شحوباً وأقل عافية، يمكن أن يكون جلدي جميلاً فهو نقي جداً، بل يبدو كأنه شفاف، لكن الأمر يعتمد كله على اللون، لم يكن لجلدي لون.
كنت مضطر وأنا أواجه صورتي الشاحبة في المرآة إلى الاعتراف بأنني أكذب على نفسي لا تنحصر مشكلتي في المظهر الجسدي وحده؛ إن كنت غير قادراً على العثور على ملاذ لي في مدرسة فيها ثلاثة آلاف طالب، فما هي فُرصي هنا؟
لم أكن أجيد التواصل مع الذين في عمري. بل لَعل الحقيقة هي أنني لم أكن أجيد التواصل مع الناس من مختلف الأعمار. حتى أمي نفسها التي كنت أقرب إليها من أي شخص آخر في العالم لم تكن على وفاق تام معي؛ وكأننا لم نكن على الموجة نفسها تماماً،
كنت أتساءل أحياناً ما إذا كانت عيناي تريان الأمور ذاتها التي تراها عيون بقية الناس، لعل ثمة خلل في دماغي، لكن السبب ليس هو المهم ما يَهُم هو الأثر،
وسوف يكون الغد نقطة البداية.
لم أنم جيداً طيلة الليل حتى بعد أن انتهيت من البكاء، ولم يتلاشى صوت المطر والريح على السطح،
غطيت رأسي باللحاف القديم الباهت ثم أضفت إليه الوسادة أيضاً بعد قليل. لكنني لم أستطع النوم حتى تجاوزت الساعة منتصف الليل وتحول المطر أخيراً إلى رذاذ هادئ . لم أستطع أن أرى غير الضباب الكثيف من نافذتي في الصباح وبدأت أشعر برهاب الأماكن الضيقة يتسلل إلي شيئاً فشيئاً. لا يمكن أبداً
رؤية السماء هنا؛ إن المكان أشبه بقفص مغلق.
كان تناول الفطور مع تشارلي حدثاً هادئاً، تمنى لي حظاً طيباً في المدرسة فشكرته مُدركاً أن أمنيته هذه أمر مستحيل، كان الحظ الطيب يميل إلى تجنبي.
انطلق تشارلي قبلي ذاهباً إلى قسم الشرطة الذي كان بمثابة زوجة وأسرة له.
بعد ذهابه جلست إلى طاولة خشب البلوط العتيقة المربعة على واحدة من الكراسي الثلاث غير المتشابهة ورحت أتفحص مطبخ تشارلي الصغير بجدرانه الخشبية القائمة وخزائنه الصفراء اللامعة وأرضه السيراميك البيضاء.
لم يتغير في هذا المطبخ شيء، لقد قامت أمي بطلاء خزائنه قبل ثمانية عشر عاماً محاولة إضفاء لمسة من أشعة الشمس على هذا المنزل، وفي غرفة المعيشة المجاورة الضئيلة كان فوق الموقد الصغير صف من الصور...في البداية صورة زفاف تشارلي وأمي في لاس فيغاس، ثم صورة لنا نحن الثلاثة التقطتها ممرضة تعمل في المستشفى عقب ولادتي، ثم تأتي سلسلة صوري المدرسية حتى آخر عهدي هنا.
كان النظر إلى هذه الصور مُحْرِجاً ... علي التفكير فيما يمكن أن أفعله حتى أجعل تشارلي يضعها في مكان آخر ... أثناء إقامتي هنا على الأقل.
بوجودي في هذا المنزل كان من المستحيل أن لا ألاحظ أن تشارلي لم ينس أمي أبداً. وقد جعلني هذا غير مرتاح، لم أكن أرغب في الوصول إلى المدرسة أبكر مما يجب، لكني لم أعد أطيق البقاء في المنزل أكثر.
ارتديت معطفي الثقيل الذي يشبه المعاطف المستخدمة عند الكوارث البيئية وانطلقت تحت المطر.
كان مطراً ناعماً لا يكفي لإغراقي ريثما أجد مفتاح المنزل الذي نخبئه دائماً تحت إفريز الباب.
وكان صوت حذائي الجديد المقاوم للماء مزعجاً، لقد افتقدت صوت فرقعة الحصى تحت قدمي عندما أمشي.
لم أستطع التوقف قليلاً حتى أتأمل شاحنتي مجدداً رغم رغبتي في ذلك، كنت أتعجل الهرب من ذلك البلل الضبابي الذي يتطاير حول رأسي ويَعْلق بشعري تحت القبعة.
كان الجو لطيفاً جافاً داخل السيارة من الواضح أن بيلي أو تشارلي قد نظفها، لكن المقاعد المدبوغة المنجدة لا تزال تفوح برائحة خفيفة من التبغ والبنزين والنعناع الحار، ارتحت لأن المحرك اشتغل سريعاً، لكن صوته كان عالياً جداً فقد زمجر أولاً ثم هدأ قليلاً إنما ظَل يدور بأقصى سرعة. لا بأس، لابد من وجود عيب في شاحنة بهذا العمر.
اشتغل الراديو العتيق أيضاً فكان مفاجأة لطيفة لم أتوقعها.
لم يكن العثور على المدرسة صعباً مع أني لم أذهب إليها من قبل.
فالمدرسة تقع على الطريق العام مثل معظم الأشياء. لم يكن ظاهراً عليها أنها مدرسة، لكن لافتة أعلنت أنها مدرسة فوركس الثانوية، جعلتني أتوقف، عندها بدت المدرسة مثل مجموعة من البيوت المتشابهة المبنية بالقرميد الأحمر. وكانت الأشجار والأجمات كثيرة إلى حد منعني من رؤية حجم المدرسة في البداية تساءلت والحنين إلى مدرستي القديمة يغمرني
أين هو الإحساس بالمؤسسة؟ أين هي الأسيجة المصنوعة من السلاسل الحديدية، وأين هي أجهزة كشف المعادن؟
أوقفت السيارة أمام المبنى الأول الذي فوق بابه لافتة كُتب عليها المكتب الأمامي، لم أرى أي سيارة واقفة هناك مما جعلني متأكد من أن هذا المكتب خارج حدود المدرسة. لكنني قررت أن أستفهم في
الداخل عن كيفية التحرك بدلاً من التجول هنا وهناك تحت المطر مثل الحمقى.
خرجت من السيارة غير راغب في مغادرة المقصورة الدافئة، اتخذت طريقي عبر ممر صغير مرصوف تَحُف به أحجار داكنة، أخذت نفساً عميقاً ثم فتحت الباب.
كان المكان شديد الإضاءة من الداخل وأكثر دفئاً مما كنت أتوقع، وكان المكتب صغيراً مع فسحة بسيطة للانتظار فيها مقاعد قابلة للطي وسجادة تجارية مُنقطَة بالبرتقالي.
وعلى الجدران تناثر عدد من الأوراق والملاحظات وساعة جدارية ضخمة تصدر تكتكة مسموعة. وكانت النباتات تنمو ضمن أوعية بلاستيكية ضخمة موزعة في كل مكان كما لو أن الخضرة في الخارج لا تكفي.
كانت طاولة طويلة تقسم الغرفة نصفين وعليها سلال شبكية مملوءة بالأوراق وعلى مقدمة كل منها لصاقة ملونة، أما خلف الطاولة الطويلة فكانت ثلاثة مكاتب موزعة تجلس إلى أحدها امرأة ضخمة حمراء الشعر تضع نظارات وترتدي قميصاً قرمزياً قصير الأكمام جعلني أشعر فوراً أن ملابسي كانت أكثر مما يجب.
رفعت المرأة حمراء الشعر رأسها ونظرت إلي
"هل أستطيع خدمتك؟"
" اسمي جيمين سوان... " فهمت من عينيها أنها تعرف اسمي. كانوا يتوقعون قدومي فلا شك في أنه موضوع جيد للقيل والقال هنا ابن زوجة رئيس الشرطة السابقة، الطائش، يعود أخيراً.
قالت المرأة " طبعاً" ثم راحت تقلب كدساً من الوثائق على مكتبها حتى وجدت ما تبحث عنه
"لدي برنامج دروسك هنا إضافة إلي خريطة المدرسة"
وضعت على الطاولة عدداً من الأوراق حتى أراها . قرأت لي برنامج دروسي كله وعلمت على الخريطة أفضل السبل للذهاب إلى كل قاعة ثم أعطتني بطاقة حتى يوقع عليها جميع المدرسين. وكان علي إعادتها إلى المكتب في نهاية اليوم.
ابتسمت لي وتمنت تماماً مثل تشارلي، أن أكون مرتاحاً ومسروراً هنا في فوركس.
رديت على ابتسامتها بابتسامة مُقنِعَة قدر ما استطعت.
كان بعض الطلاب قد بدأوا يصلون إلى المدرسة عندما عدت إلى شاحنتي. قدت الشاحنة حول المدرسة خلف رتل السيارات. سُررت إذ رأيت أن معظم السيارات قديمة مثل سيارتي ولم يكن بينها أي سيارة تلفت الأنظار. لقد كنت أعيش في واحدة من الأحياء القليلة منخفضة الدخل المتضمنة في منطقة باراديس فالي. ومع ذلك كان شيئاً عادياً أن ترى سيارة مرسيدس أو بورش جديدة في موقف سيارات الطلاب.
أما أفخم سيارة هنا فكانت سيارة فولفو لامعة؛ وكانت تقف بعيداً عن غيرها. رغم ذلك كله أطفأت المحرك بمجرد وصولي إلى منطقة الوقوف حتى لا يجذب هديره الشديد الأنظار إلي.
نظرت إلى خريطة المدرسة وأنا داخل السيارة محاول أن أحفظها غيباً الآن. وكنت آمل أن لا اضطر إلى السير هنا وهناك وأنا أحملها أمام أنفي طيلة النهار.
وضعت كل شيء في حقيبتي وعلقت الحقيبة على كتفي واستنشقت نفساً عميقاً، أستطيع أن أفعل هذا! كذبت على نفسي بضعف، لن يعضني أحد، زفرت أخيراً ونزلت من السيارة.
أبقيت وجهي مشدوداً إلى الخلف حتى يختبئ داخل قبعتي بينما مشيت إلى الرصيف المزدحم بالمراهقين، لاحظت براحة أن معطفي الأسود العادي لم يكن متميزاً عن غيره.
عندما انعطفت حول الكافيتريا كان من السهل علي تحديد المبنى رقم ثلاثة، كان الرقم (3) مكتوباً بالدهان على مربع أبيض عند زاوية البناء الشرقية،
شعرت أن تنفسي تسارع كثيراً عندما اقتربت من البوابة، حاولت أن أحبس أنفاسي بينما كنت أعبر البوابة في إثر معطفين مطربين،
كانت غرفة الصف صغيرة وقف الشخصان السائران أمامي داخل الباب حتى يعلقا معطفيهما على صف طويل من المشاجب، فعلت كما فعلا كانا ولدان إحداهما أشقر بشرته بيضاء كالبورسلين والثاني شاحب اللون أيضاً له شعر بني فاتح على الأقل لن يكون لون جلدي مستغرباً هنا.
أخذت البطاقة إلى المدرس الذي كان رجلاً طويلاً بدأ الصلع يغزو رأسه، كانت على مكتبه بطاقة باسم السيد ماسون، حدق إلي بطريقة بلهاء عندما ذكرت له اسمي ... ليس هذا بِرَدِّ فعل مشجع ... وبالطبع احمر وجهي فجأة مثل الطماطم، لكنه أرسلني لأجلس على مقعد فارغ في آخر الغرفة من غير أن يقدمني إلى الصف. كان من الصعب على زملاء صفي الجديد أن يحدقوا إلي وأنا خلفهم، لكنهم نجحوا في ذلك بطريقة من الطرق. أبقيت عيني مسبلتين أنظر إلى قائمة المواد المطلوبة قراءتها التي أعطاني إياها المدرس.
كانت أعمالاً كلاسيكية فعلاً : برونتي ويتحدث وشكسبير وتشوسر وفولكنر، لقد سبق لي أن قرأتها كلها، كان هذا مريحاً ... ومملاً أيضاً. فكرت فيما إذا كانت أمي يمكن أن ترسل لي ملف المواضيع القديمة التي كتبتها، أو لعلها تعتبر ذلك نوعاً من الغش.
دارت في رأسي جدالات كثيرة بيني وبينها في حين كان المدرس يتحدث
عندما قرع الجرس، كان صوته مثل أزيز صادر من الأنف، انحنى نحوي عبر الممر بين المقاعد ولد شكله يشبه أفراد العصابات بشعره الأسود الناعم وجلده ذي البثور.
" أنت جيمين سوان..صحيح؟! "
لقد بدا لي مثل الأولاد الخدومين أكثر مما يجب في نادي الشطرنج " أجل"
استدار كل من كان ضمن دائرة قطرها ثلاثة مقاعد ناظرين إلي.
سألني الولد " ماهي حصتك التالية؟ "
كان علي أن أنظر في حقيبتي " همم، إنها حصة سياسة مع جيفرسون في المبنى رقم 6 "
لم أكن لأستطيع النظر في أي اتجاه دون أن تصادف عيناي أعيناً فضولية، كان بالتأكيد خدوماً أكثر مما يجب " أنا ذاهب إلى المبنى رقم 4 أستطيع أن أريك الطريق...بالمناسبة إسمي إيريك"
ابتسمت متردد " شكرا"
أخذنا معاطفنا وخرجنا إلى المطر الذي زادت شدته، أستطيع أن أقسم أن عدة أشخاص كانوا يسيرون خلفنا على مقربة شديدة تسمح لهم باستراق السمع، رجوت أن لا تكون الهواجس قد استولت علي.
سألني " إذن...الأمر هنا مختلف كثيراً عن فينيكس،هاه..؟"
"كثيراً"
"إنها لا تمطر كثيراً هناك، صحيح؟ ثلاث أو أربع مرات في السنة"
تساءل متعجباً "واو! ما عسى ذلك أن يكون؟ كثير من الشمس، ولا يبدو عليك أن الشمس قد لَوّحَتْكَ كثيراً "
"أمي من أصول إنكليزية !"
نظر إلى وجهي نظرة متفحصة، فأطلقت زفيراً يظهر أن الغيوم والمزاج الفكاهي لا يجتمعان يكفيني عدة أشهر على هذا النحو حتى أنسى كيف أتحدث بخفة وبسخرية.
سرنا حول الكافتيريا ومررنا بجانب الصالة الرياضية متجهين إلى المباني الجنوبية. أوصلني إريك إلى الباب تماماً مع أن رقم المبنى كان مكتوباً عليه بوضوح .
عندما لمست مقبض الباب قال إريك "حظاً طيباً" ثم أضاف بصوت بدا عليه الأمل "ربما يكون لدينا دروس مشتركة أخرى."
ابتسمت له ابتسامة شاردة ودخلت المبنى.
✵✵✵✵✵
مضت بقية ذلك الصباح على النحو نفسه، كان مدرس مادة المثلثات السيد فارنر الذي كنت سأكرهه على أي حال بسبب المادة التي يُدَرِسُها، الشخص الوحيد الذي جعلني أقف أمام الصف كله لأقدم نفسي، تلعثمت واحمر وجهي وتعثرت بحذائي وأنا أعود إلى مقعدي.
بعد حصتين بدأت أتعرف على عدد كبير من الوجوه في كل صف. كنت أرى دائماً شخصاً أكثر شجاعة من الآخرين يقدم نفسه ويسألني أسئلة عما إذا كنت أحب فوركس. حاولت أن أكون دبلوماسيا، وكذبت كثيراً في معظم الحالات، لكنني لم أكن بحاجة إلى استخدام الخريطة على الأقل.
جلس أحد الفتيان بجانبي في دَرْسَيْ المثلثات واللغة الإسبانية، وسار معي إلى الكافيتريا وقت الغداء.
كان ضئيل الحجم، أقصر مني بنحو عشرة سنتيمترات مع أن طولي لم يكن يتجاوز 162 سنتيمتراً، لكن شعره الداكن المجعد عَوض عن قدر كبير من فارق الطول بيننا. لم أستطع تذكر اسمه، لذلك ابتسمت وأومأت له برأسي وهو يثرثر عن المعلمين والصفوف ... لم أحاول حتى متابعة ما يقول.
تَرَبّعْنَا إلى طرف طاولة عليها عدد من أصدقائه الذين قدمني إليهم. نسيت أسماءهم جميعاً بمجرد أن انتهى من تِعداده. بدا أصدقاؤه متأثرين بشجاعته في التحدث معي.
أما ذلك الصبي من صف اللغة الإنكليزية، إريك، فقد لوح لي بيده من الناحية الأخرى للقاعة.
هناك حيث كنت أجلس في غرفة الطعام محاولاً فتح حديث مع سبعة أشخاص غرباء ...
هناك رأيتهم للمرة الأولى، كانوا يجلسون في زاوية الكافيتريا، أي في أبعد مكان عن النقطة التي كنت أجلس فيها، كانوا خمسة. وما كانوا يتحدثون أو يأكلون مع أنَّ صينية من الطعام كانت أمام كل واحد منهم.
وما كانوا يحدقون إلي خلافاً لمعظم التلاميذ الآخرين، لذلك كان من الآمن أن أنظر إليهم دون خوف من ملاقاة أعين تُبدي اهتماماً مفرطاً.
لكن ما جذب اهتمامي لم يكن أي شيء من هذا كله.
ما كانوا متشابهين أبداً، فمن بين الأولاد الثلاثة كان صبي ضخم مفتول العضلات مثل رباع حقيقي وله شعر داكن مجعد، كان الثاني أطول منه وأرشق جسداً لكنه مفتول العضلات أيضاً وكان شعره أشقر بلون العسل.، وكان الثالث طويلاً نحيلاً له شعر برونزي مشعث كان شكله أكثر صبيانية من الآخرين اللذين يمكن أن يوحي شكلهما بأنهما في الجامعة، أو حتى بأنهما معلمين لا طالبين.
كان الصبين الآخرين عكسهم تماماً، كان الأول طويل أشبه بتمثال...قوام جميل من ذلك النوع الذي تراه على غلاف مجلات ملابس السباحة أي من النوع الذي يجعل كل فتاة وفتى من حوله يفقد جزءاً من ثقته في نفسه لمجرد وجوده معه في غرفة واحدة.
كان شعره ذهبي اللون تمتد تموجاته الناعمة حتى منتصف أذنيه.. وكان الثاني القصير ذا مظهر عابث شديد النحول دقيق القسمات له شعر أسود فاحم قصير يشير في كل اتجاه.
لكنهم كانوا جميعاً متشابهين تماماً، كانوا شاحبي اللون كالطبشور بل كانوا أكثر شحوباً من جميع الطلاب في هذه البلدة التي لا تعرف الشمس.
حتى أنهم كانوا أكثر شحوباً مني أنا البريطاني.. كانت عيونهم داكنة رغم تفاوت ألوانها، وكانت لهم جميعاً ظلال تحت أعينهم...ظلال مزرقة قليلاً كأنها كدمات، كانوا مثل من يعاني آثار ليلة من الأرق أو من يتماثل أنفه المكسور للشفاء، لكن أنوفهم وملامحهم كلها كانت جميلة متناسقة تامة.
لكن هذا كله لم يكن هو ما جعلني لا أستطيع رفع أنظاري عنهم، كنت أحدق إليهم لأن وجوههم المختلفة جداً، المتشابهة جداً، كانت كلها جميلة جداً على نحو غير بشري. وجوه لا يتوقع المرء أن يراها إلا على صفحات مجلات الأزياء أو في صور الملائكة التي رسمها فنانون كبار قدماء. كان يصعب تحديد الأجمل بينهم...لعله ذلك الأشقر الرائع أو الصبي ذو الشعر البرونزي.
كانت أبصار كل منهم تتجه بعيداً...بعيداً عن بقية المجموعة...بعيداً عن بقية الطلاب...بعيداً عن أي شيء محدد، هذا ما رأيته على الأقل. فيما كنت أنظر إليهم نهض الفتى القصير حاملاً صينيته...علبة صودا لا تزال مغلقة، وتفاحة لا تزال سليمة...
سار بعيداً بخطوات سريعة متبخترة كمن يمشي على خشبة مسرح، ظللت أنظر إليه مدهوش بخطواته الراقصة الرشيقة حتى وضع صينيته وخرج من الباب الخلفي بأسرع مما تخيلت ذلك ممكناً.
عادت عيناي إلى بقية المجموعة فوجدتهم جالسين كما كانوا تماماً. سألت الفتاة التي من صف اللغة الإسبانية...ما كان اسمها مجدداً؟
"من هم؟"
وبينما كانت تنظر لتعرف من المقصود...الأرجح أنها عرفت ذلك من نبرة صوتي...
نظر إلي فجأة...الشاب النحيل ذو الملامح الصبيانية...لعله أصغرهم.
نظر إلى القابعة بجانبي لجزء من الثانية ثم اتجهت عيناه الداكنتان إلى عيني.
أشاح بنظره سريعاً...أسرع مني... رغم أنني أسبلت عيني محرجاً من فوري، لم يظهر على وجهه أي اهتمام في تلك النظرة الخاطفة...
كان الأمر كأن التي بجانبي نادت باسمه فنظر عفوياً مقرراً ألا يجيب.
ضحكت الفتاة محرجة وهي تنظر إلى الطاولة مثلي وقالت بصوت خفيض
" إنهم جونغكوك و سان كولِن... و وويونغ و يونغي هيل... أما الذي ذهب فهو تايهيونغ كولِن أيضاً، إنهم يعيشون كلهم مع السيد كولِن وزوجه"
ألقيت نظرة جانبية على الصبي الجميل الذي كان ينظر إلى صينيته الآن ويفتت كعكة مستديرة بأصابعه الشاحبة الطويلة، كان فمه يتحرك سريعاً جداً من غير أن يفتح شفتيه الرائعتين إلا قليلاً جداً.
ظلت أنظار الثلاثة الآخرين متجهة بعيداً لكنني شعرت أنه كان يُحدثهم بصوت خافت.
قلت في نفسي أنها أسماء غريبة غير شائعة، أشبه بأسماء الأجداد والجدات، لكن لعلها أسماء شائعة هنا في البلدات الصغيرة، أخيراً تذكرت أن التي تقبع بجانبي تدعى جيسيكا، وهذا اسم شائع تماماً، كانت معي فتاتان باسم جيسيكا في صف التاريخ في أريزونا.
تحدثت جاهداً في جعل تعبيري أقل مما شعرت به فعلاً
"إنهم لطيفو المظهر جداً"
ضحكت جيسيكا ثانية " نعم..لكنهم كلهم معاً، أقصد سان و وويونغ و يونغي و تايهيونغ، وهم يعيشون معاً أيضاً"
قلت لنفسي أن صوتها حمل كل ما في هذه البلدة الصغيرة من صدمة وإدانة. لكن، لأكن صادق، علي أن أعترف أن من شأن هذا أن يثير القيل والقال حتى في فينيكس نفسها.
"من هم أبناء كولِن؟ إنهم لا يبدون إخوة"
" أوه!! إنهم ليسوا إخوة، السيد كولِن ما يزال شاباً إنه في العشرينات أعتقد أو في أوائل الثلاثينات، إنهم متبنون جميعاً، يونغي و وويونغ هيل.. إنهما توأم، أمهما أخت زوجة الدكتور كولِن أو شيء من هذا القبيل، لقد عاشا في بيت السيد كولِن"
" لكنهما كبيران..؟ "
"إنهما كبيران الآن يونغي و وويونغ في الثامنة عشر، لكنهما يعيشان مع السيد كولِن منذ كانا في الثامنة"
"هذا لطيف حقاً...لطيف منه أن يهتم بهذين الطفلين على هذا النحو عندما كانا صغيرين جداً"
قالت جيسيكا من غير اهتمام " أعتقد هذا "
شعرت أنها لا تحب السيد ولا زوجه، لسبب من الأسباب، لكن كان بوسعي الافتراض من النظرات التي كانت تلقيها على أبنائهما بالتبني أن السبب هو الغيرة،
أضافت جيسيكا وكأن هذا يقلل من لطافة الأمر
"أعتقد أن زوج السيد كولِن لا يستطيع الإنجاب"
خلال هذا الحديث كله كانت عيناي تلقيان من حين لآخر نظرة خاطفة إلى الطاولة التي جلست إليها تلك العائلة الغريبة، كانوا مستمرين في النظر إلى الجدران دون أن يُوَلُّوا أي اهتمام للطعام.
" هل كانوا يعيشون في فوركس دائماً؟"
أعتقد لو كانوا في فوركس دائماً لرأيتهم بالتأكيد ذات صيف
قالت جيسيكا بصوت يوحي أن الأمر يجب أن يكون واضحاً حتى بالنسبة لقادم جديد مثلي " لا ! جاؤوا من مكان ما في ألاسكا منذ عامين فقط "
غمرتني موجة من الإشفاق...ومن الراحة، إشفاق لأنهم كانوا دخلاء ولأن من الواضح أنهم غير مقبولين...رغم جمالهم، وراحة لأنني لم أكن الوافد الجديد الوحيد هنا ولأنني لم أكن الأكثر إثارة للاهتمام...بكل تأكيد...وبكل المقاييس.
بينما كنت أنظر إليهم التقت مُقلَتايْ بعيني أصغرهم،
_جونغكوك كولِن_
كان الفضول واضحاً في تعبيره هذه المرة، وبينما كنت أشيح بوجهي سريعاً بدا لي أن نظرته حملت نوعاً من توقع لم يتحقق.
"من هو الصبي ذو الشعر المُحمر؟ "
نظرت إليه خلسة من زاوية عيني فوجدته مستمراً في النظر إلي، لكنه لم يكن يحدق بغباء كما فعل بقية الطلاب اليوم...كان على وجهه تعبير يوحي بشيء من الإحباط والغضب.
أطرقت برأسي ثانية...
" إنه جونغكوك... إنه رائع طبعاً... لكنه لا يواعد أي شخص فلا تضيع وقتك معه، واضح أنه لا يعتبر أي فتاة أو فتى هنا جميل بما يكفي بالنسبة إليه "
إنها حالة واضحة من حالات العِنب الحامض، متى خيب أملها يا تری؟
عضضت شفتي حتى أخفي ابتسامتي ثم نظرت إليه ثانية، كان قد أدار وجهه، لكني شعرت أن وجنته ارتفعت قليلاً كما لو أنه يبتسم أيضاً.
بعد عدة دقائق نهض الأربعة وغادروا طاولتهم سوية، كانت مشيتهم رشيقة و جميلة، حتى ذلك الضخم ذو الشعر البني، كان النظر إليهم معذباً، أما الذي اسمه جونغكوك فلم ينظر إلي مرة ثانية.
جلست إلى الطاولة مع جيسيكا وأصدقائها وقتاً أطول مما لو كنت جالس وحدي، خفت أن أتأخر عن صفي في أول أيامي في هذه المدرسة، كانت فتاة من معارفي الجدد ذاهبة إلى صف علم الأحياء 2 مثلي وقد ذكرتني بلطف أن اسمها أنجيلا، مشينا باتجاه الصف صامتين، لقد كانت خجولة أيضاً.
عندما دخلنا الصف ذهبت أنجيلا لتجلس إلى طاولة المخبر ذات السطح الأسود... تماماً مثل طاولات المخبر التي أعرفها، كان لديها جار على الطاولة والحقيقة أن كل الطاولات كانت مشغولة إلا واحدة.
وإلى هذه الطاولة قرب الممر الأوسط، كان يجلس جونغكوك كولِن بشعره غير المألوف وبجانبه الكرسي الفارغ الوحيد، مشيت في الممر لأقدم نفسي إلى المدرس وأطلب توقيعه على البطاقة، لكني كنت أراقب جونغكوك خلسة.
وعندما مررت بجانبه تصلب في مقعده فجأة حدق إلي ثانية فالتقت عيناه بعيني وكان على وجهه تعبير غريب جداً ... تعبير غضب وكراهية.
أدرت رأسي سريعاً وأنا أشعر بصدمة، واحمر وجهي من جديد تعثرت بكتاب ملقى في الممر فأمسكت بطرف إحدى الطاولات حتى لا أقع، مع سماعي لضحك الفتاة الجالسة إليها.
لاحظت أن عينيه كانا سوداوان... سوداوان كالفحم.
وقع السيد بانر على البطاقة وأعطاني كتاباً دون أن يقول شيئاً من تلك السخافات المتعلقة بتقديم نفسي لبقية الطلاب، شعرت أننا سننسجم معاً، وبطبيعة الحال لم يكن لديه خيار إلا أن يرسلني لأجلس في المقعد الوحيد الشاغر في منتصف الغرفة.
ذهبت لأجلس بجانب جونغكوك دون أن أرفع نظري، وكنت محتاراً بسبب النظرة المعادية التي رأيتها على وجهه.
لم أرفع نظري وأنا أضع كتابي على الطاولة وأجلس على مقعدي لكني رأيت من زاوية عيني أنه يغير وضعيته، كان يميل بجسمه مبتعداً عني جالساً على حافة كرسيه مشيحاً بوجهه كما لو أنه يشم رائحة كريهة مُنْبَعِثَة مني، دون وعي شممت شعري، كانت رائحته مثل رائحة الفراولة ... إنها رائحة غاسولي المفضل، كانت تبدو رائحة بريئة بالقدر الكافي، تركت شعري يسقط أمام وجهي ليصنع ستارة بيننا وحاولت الانتباه للدرس.
ولسوء حظي كانت المحاضرة عن تشريح الخلية وهذا موضوع سبق أن درسته، لكنني سجلت ملاحظاتي بعناية دون أن أرفع رأسي.
لم أستطع منع نفسي من النظر عبر ستارة شعري من حين لآخر إلى ذلك الصبي الغريب القابِع قربي،
وخلال الدرس كله لم يُخَفف أبداً من وضعيته المتصلبة على حافة الكرسي بعيداً عني إلى أقصى حد ممكن، كان يضم كفه على ساقه اليسرى بقبضة محكمة ... كانت العروق نافرة تحت جلد يده الشاحب، لم يرخ قبضته أيضاً، كانت أكمام قميصه الأبيض مرفوعة حتى المرفقين، وكان ساعده يبدو صلباً مفتول العضلات تحت جلده إلى حد فاجأني، وما كان أبداً ضئيل الحجم كما بدا لي عندما كان يجلس قرب أخيه الضخم.
لم أشعر بطول ذلك الدرس أكثر من غيره، لعل ذلك لأن اليوم كان يشارف على النهاية أخيراً، أو لعله لأنني كنت أنتظر قبضته المشدودة حتى تسترخي ؟
لكنها لم تسترخ أبداً، لقد ظل جالساً دون أي حركة حتى كأنه لم يكن يتنفس ما مشكلته؟ هل هذا هو سلوكه الطبيعي؟ راجعت حكمي بشأن ما رأيته من مرارة جيسيكا وقت الغداء، لعلها لم تكن تكرهه كما ظننت.
لا علاقة للأمر بي إطلاقاً، إنه لا يميز بيني وبين أي فتاة أو فتى أخر، استرقت النظر إليه مرة أخرى، لكني ندمت على ذلك، كان يحدق بي ثانية والاشمئزاز يملأ عينيه السوداوين ابتعدت عنه بأقصى ما استطعت ملتصق بمقعدي ومرت بذهني فجأة عبارة لو كانت النظرات تستطيع القتل ! أووه ههه أظن أنني خرجت عن المألوف،حسناً إنني في موقف لا يسمح فيه أن أظهر حسي الفكاهي فجأة...
رن الجرس عالياً في تلك اللحظة فجعلني أجفل، قام جونغكوك كولِن من مقعده واقفاً بليونة ... كان أطول بكثير مما ظننت ... كان يُولي بظهره اتجاهي، وخرج من الباب حتى قبل أن ينهض أحد من مقعده.
جلست في مقعدي متجمد أحدق في إثره بنظرات فارغة، لقد كان وضيعاً، ليس الأمر عادلاً هكذا بدأت أجمع أشيائي ببطء محاولاً كبت الغضب الذي ملأني لأنني خفت أن تفر الدموع من عيني، لسبب لا أعرفه كان مزاجي شديد الارتباط بدموعي، وعادة ما كنت أبكي عند الغضب ...
سمعت صوتاً ذكورياً يسألني " ألست جيمين سوان؟"
نظرت فرأيت صبياً ظريفاً له وجه طفل، كان شعره الأشقر الشاحب مصففاً بالجل على شكل حزم نافرة، وكان يبتسم لي ابتسامة ودية.
واضح أنه لا يجد رائحتي سيئة
"أنا مايك"
"أهلا مايك"
"هل أنت بحاجة إلى مساعدة للعثور على مكان درسك التالي؟"
"أنا ذاهب إلى قاعة الرياضة في الواقع، أعتقد أنني أستطيع العثور عليها"
"أنا ذاهب إليها أيضاً"
بدا مسحوراً بهذه المصادفة مع أنها ليست مصادفة غريبة في مدرسة صغيرة إلى هذا الحد، مشينا إلى قاعة الرياضة معاً، لقد كان كثير الكلام ... تولى معظم الحديث بنفسه، وهذا ما جعل الأمر أسهل بالنسبة لي، لقد عاش في كاليفورنيا حتى بلغ العاشرة ولهذا كان يعرف كيف أشعر هنا بسبب غياب الشمس.
واتضح أنه معي في صف اللغة الإنكليزية أيضاً، كان ألطف شخص أقابله اليوم.
لكنه سألني بينما كنا ندخل إلى قاعة الرياضة "هل طعنت جونغكوك كولِن بالقلم أم ماذا؟ لم أره يتصرف على هذا النحو من قبل"
انكمشت على نفسي خوفاً، لست وحدي من لاحظ الأمر إذن، ومن الواضح أن هذا السلوك لم يكن سلوك جونغكوك كولِن المعتاد، قررت التظاهر بالغباء
سألته على نحو أخرق "هل هو الصبي الذي كان يجلس بجانبي في درس الأحياء؟"
"نعم! بدا كأنه متألم ... أو شيء من هذا القبيل."
" لا أعرف ... أنا لم أتكلم معه "
تباطأ مايك بجانبي بدل أن يذهب إلى غرفة تبديل الملابس
"إنه شخص غريب، لو كنت محظوظاً وجلست بجانبك لتحدثت معك طبعاً !"
ابتسمت له قبل أن أذهب إلى غرفة تبديل ملابس كان ودوداً، من الواضح أنه معجب بي، لكن هذا لم يكن كافياً لتبديد انزعاجي.
وجد مدرس الرياضة المدرب كلوب ملابس رياضية من أجلي لكنه لم يطلب مني ارتداءها في حصة اليوم.
في مدرستي السابقة كان درس الرياضة مطلوباً منا سنتين فقط، أما هنا فهو إجباري مدة أربع سنوات،
كانت فوركس جحيمي على الأرض بالمعنى الحرفي،
رحت أراقب أربع مباريات في الكرة الطائرة تجري في وقت واحد، وتذكرت كثرة الإصابات التي لحقت بي والتي ألحقتها بغيري خلال لعب الكرة الطائرة شعرت بشيء من الغثيان.
رن جرس الانصراف أخيرا، مشيت ببطء إلى المكتب حتى أعيد البطاقة، كان المطر قد توقف، لكن الريح كانت أكثر شدة وبرودة، لففت ذراعي حول جسدي فوراً.
عندما دخلت المكتب الدافئ كدت أستدير على عقبي وأخرج...
كان جونغكوك كولِن واقفاً أمامي عند المكتب، لقد عرفته فوراً من شعره المشعث البرونزي. لم يبد عليه أنه لاحظ دخولي، وقفت ملتصقاً بالجدار خلفه وانتظرت حتى تفرغ موظفة الاستقبال من الحديث معه.
كان يجادلها بصوت منخفض جذاب وسرعان ما فهمت موضوع جدالهما، إنه يريد تغيير موعد ساعات علم الأحياء السِت إلى وقت آخر ... أي وقت آخر.
لم أصدق أن الأمر يتعلق بي، لابد أن في الأمر شيئاً آخر شيء حدث قبل دخولي صف علم الأحياء، لابد أن تلك النظرة على وجهه كانت بسبب أمر آخر تماماً.
مستحيل أن يكون هذا الغريب قد اتخذ مني موقف الكره الشديد المفاجئ إلى هذا الحد.
انفتح الباب ثانية واندفعت ريح باردة مفاجئة إلى الغرفة مبعثرة الأوراق فوق المكتب وجعلت شعري يرفرف فوق وجهي، اكتفت الفتاة التي دخلت بأن بلغت المكتب فوضعت ورقة في السلة ثم خرجت.
لكن ظهر جونغكوك تصلب ورأيته يستدير ببطء ويحدق إلي ... كان وجهه وسيماً على نحو غريب،
وكانت نظرة كراهية تملأ عينيه الثاقبتين. و لِوَهْلة.. شعرت بنوبة من الخوف الحقيقي جعلت شعر جسدي يقف.
لم تدم تلك النظرة إلا ثانية واحدة لكنها جعلتني أشعر ببرد أشد من برد الريح الصقيعية.
استدار جونغكوك إلى موظفة الاستقبال وقال متعجلاً بصوت مخملي
" لا بأس إذن. أفهم أن الأمر مستحيل، أشكرك كثيراً على مساعدتك"
استدار على عقبيه دون أن يلقي باتجاهي نظرة أخرى وخرج من الباب.
مشيت ببطء إلى المكتب وقد امتقع وجهي بدلاً من أن يحمر، ناولتها البطاقة الموقعة فسألتني بصوت أمومي
" كيف كان يومك الأول في المدرسة يا عزيزي ؟"
كذبت قائل بصوت خافت "جيد" فلم يبد عليها أي اقتناع.
عندما وصلت إلى سيارتي وجدت أنها آخر سيارة باقية في الموقف تقريباً، شعرت أنها ملاذ آمن لي فهي أقرب شيء إلى منزلي في هذه البقعة الخضراء المشبعة بالرطوبة.
جلست داخل السيارة قليلا مكتفي بالتحديق عبر زجاجها على غير هدى، لكنني سرعان ما شعرت بالبرد وبالحاجة إلى تشغيل التدفئة، أدرت المفتاح فانطلق المحرك مزمجراً، قدت السيارة عائداً إلى منزل تشارلي محاوِلاً كبح دموعي طوال الطريق.
𖤍
𖤍
𖤍
𖤍
❄︎❄︎❄︎❄︎❄︎❄︎
اِمنَحُوا صَغيرتي الكثير مِن الحُب...
رأيكم بالأحداث..؟
مع قُبلاتي الحَارة... استمتِعوا... ❀