ثلاثة ايام بقي. ..بلا عمل ..
حسنا الدلال ...شيئا مستحبا ...
لكن ان يحملها حتى الحمام لتقضي حاجتها ويبقي بجوار الباب ..ليس مستحبا علي الاطلاق ..
وعندما صنع شوربة لاجلها ؛ سألته :"اتجيد الطهى ؟؟!"
اجاب بسرعة :" افضل منك ".
عبست لاجابته الكريهه ..
لكنه استطرد يقول بتأكيد :"لا لا اجيده ..انه كتابك .."
اخرج كتاب الطهو من ملابسه بينما يؤكد :" كتاب مفيد للغاية".
فتحت عيونها في دهشة ..اين وجده ؟!
سالته :"اكنت تعرف ؟؟"
اكان يعرف انها تأخذ منه الوصفات ؟!
اومأ ثم قال :"اعرف ..والعم نور ...من اول يوم ...لم يكن هناك داعى من تزيين اطباق المهلبية بهذا الشكل .. لقد اشبعنا الرجل سخرية ".
ابتسمت لتذكرها ..
يعرف ..
من اول يوم ..
اهو اهتمام ؟؟..ام مجرد ذكاء ..وربط للامور ببعضها ؟؟
قالت بامتنان :"اشكرك ".
قالتها علي كونها ترهقه ..
فلقد مرضها ..و اهتم بها ...واطعمها ..
لكنه قابلها بهز كتفيه بلامبالاة بينما يتحرك نحو الخارج ..
'طارق رائع'
هو كذلك ..
حدقت بالسقف ..تفكر ..
ليتها لم تأتى ..
فلو كان طلقها دون ان تأتى ...لكان الامر هين ..
ولكن اذا طلقها الان ..لشق عليها الامر بشدة ..
فهى لا تتخيل حياتها اذا تركها ..
لمن ستطهو ..
ولمن ..
من ستحتضن في فراشها ؟!
ليس الامر بالشئ الذي يسهل تعويضه ..
فهى حقا لا تتخيل حياتها بعده ...
فرغم عمر زواجهما القصير الا انه ترك في داخلها اكبر الاثر ..
ليس رجلا يسهل استبداله بآخر ..انه ..
انه ليس كأى رجل ..
******
بدت ايامها متشابهه ..اما اليالي فأمر اخر ..
أمر تحبه وتخشاه ..
تخشي ان تكون مجرد امرأة للفراش ...متوفره ..فلما لا ..
تخشي ان تكون مجرد الهاء ..
شئ ..كأى شئ ..كأى طعام ..يوضع امامه ليأكله ليسد جوعه ..
حسنا ..هى لا تعرف كيف هم الرجال ..
ولا تستطيع عقد المقارنات ..
ولكن ..
لكن اهتمامه بها يقول اشياء ..
و ..
و نظراته ..
نظراته لها عندما يكونا معا ...كزوج و زوجة ...ليست كأى نظرات ..
ليست تتخيل .. فهو برغم ما يبديه من خشونة وقسوة الا انه يعمد الي اسعادها ...
تعرف ذلك ..
اشياء صغيرة قد لا يلتفت اليها احد ..ولكنها تعرفها ..
اشياء صغيرة بقيت من طارق ..طارق الماضى ..
اشياء صغيرة تدلل ان لها بعضا مما كان ..
وعليها ان تتشبث بما لها ...
*****
عادت الي المطبخ بعد ايام من الراحة ..
لم تكن بكامل قواها الجسمانية ولكنها لا تحب البقاء في الأسرة ..كالمرضي.
فاقنعته انها اصبحت معافاة ..فتركها ..
وقفت امام القدور تفكر ماذا ستطهي ..
اختارت وجبة خفيفه حتى يتسنى لها البقاء بالفراش لبضعة سويعات ..
كان التهليل المصاحب لخروج الوجبات الساخنة محببا اليها ..فتبسمت بينما يصيح احدهم :"حمدا لله ...كنت قد اعتقدت انى لن آكل طعاما ساخنا ثانية".
مالت عليه ثم سألته بخبث :"هل اطعمتهم الطعام باردا؟"
اجاب ببساطة رافعا كتفيه :"هم من تأخروا ".
بينما تسمع هتافا اخر :" الا ترى يا طارق ..هناك ما يسمى بالبهارات ...هل تتذوقها ؟!"
عادت لتسأله بدهشة:"الم تضع اى بهار علي الطعام؟!"
"لم اعرف مكانه".
يالها من تبريرات قوية ..كان بامكانه سؤالها ..
ابتسمت بينما تعود تسأل :"هل احرقت طعامهم ؟؟!"
اتسعت عيونه في دهشة بينما يسألها :"كيف عرفتى ؟؟!"
لمعت عيونها بتسلية واضحة بينما تجيب بابتسامة متسعة :"وجدت احد القدور المحترقة مخبأة بعناية في حجرة التخزين ".
تحاشي النظر اليها بطريقة جعلتها تنفجر بالضحك ...
لم تتمالك نفسها من الضحك بينما تدخل الي الفراش بعدها بساعة وهى تتذكر طريقته بالانكار ..
لذيذ ..
مرح ..
حتى عندما لا يجيد امرا ...يبدو محببا ..
محببا للغاية ...
نظر اليها شرذا ...بينما يهتف :"توقفي ..لا يستحق الامر كل هذا الضحك".
اومأت ضاحكة :" انت لا تعلم... كيف تبدو بينما تبرر .. ".
كانت تضحك بتلقائية ..
في البداية عبس ..ثم ضحك هو ايضا ..
تشاركا الضحك ....لاول مرة ...
لاول مرة يضحك معها بلا ضغينة ..
بمرح ..
يالعظم ما ستفقد!!!
********
"بإمكانك الذهاب للعب الكرة ..فأنا "
قاطعها :" لا ..سأبقي ..سأساعدك "
كانت متوترة ..
لا تعرف سببا للتوتر ..
حسنا ...تعرف ..
فالعم نور..سيأتى في الصباح ..
لم يعد لبقاءها معنى ..
كانت حجتها اطعامهم ...والان عليها الرحيل ..
لماذا ستبقي ؟؟
هو لم يقلها ..ولم يبدي اى كلمة او اشارة الي انه يريدها ..
لم يقل حرفا ..
لعله متعجلا رحيلها ..
لعله لا يريد اكثر ..
فمازالت تتذكر عبوسه وغضبه يوم عرضت ان تبقي بديلا لتطهو. .
تذكر اتهامه لها انها فعلت ذلك من اجل البقاء ..
هل فعلتها لاجل ان تبقى؟؟
علماء النفس يؤكدون ان هناك قسم من افعالنا يحركه اللاوعى بداخلنا..
اى انها تريد البقاء لذلك قالت ما قالته ...
نظرت اليه بينما يتحرك بخفة يقطع الخضار بحرفية قد يتخيله المشاهد طاهى محترف .
شعرت بالالم. ..شعور مهين ان تريد شخصا لا يريدك. .
كانت ترمقه ..وكأنها لن تراه ثانية ..
نظرات علها تحفظ في داخلها كل ملامحه. كل انش فيه. بل تتنفس عطره وتختزنه ...
يااااه
شتان بين علا ..من حضرت من اكثر من شهر ونصف ...
وعلا الان. ..
علا الاولى جاءت مرغمة. ..ولم تكن تنوى قط البقاء ...
كانت مستهترة. ..تتلاعب وتستغل مشاعر الاخرين. فما ذنبها اذا احبها احدهم. .عليه التحمل اذن ....
واليوم ..لا تريد الرحيل ..بل انها ترى ان ما يسمى بالمدنية والتحضر شئ بغيض ..
و غرفتها البسيطة. ..تبدو كقصر .
لا تريد سوى صحراء وغرفة بسيطة بفراش واحد يجمعها به ...
حقا تفعل. ..
لا تدرى متى اصبحت بهذ الاستغناء عن البشر ..
فقط لو يقبل ؟؟!
******
اصطنعت النوم بينما تحاول اخفاء بؤسها ...
فالليلة هى اخر ليلة لها هنا ..
اخر ليلة يحق لها فيها ان تمسه ..
ان تعتبره زوجا ..
اخر ليلة ...
انفجرت في بكاء مكتوم ...اهتز له جسدها ..
وضع يده علي كتفها ليشدها سائلا :"علا. ما بك ؟؟لما تبكين !؟"
'ابكيك ..ابكى فرصتى الضائعة معك '
لم تتفوه بكلمة ..
كيف تقولها ..
واذا قالتها....ترى ...اسيصدقها ؟؟
بالطبع لن يفعل .
هدهدها كطفل بينما يكرر سؤاله باهتمام :"لما تبكين ؟؟اخبرينى ما حدث؟؟هل انتى مريضة؟؟"
كانت تهز رأسها نافية ...
احتضنها ذراعاه فبقيت بينهم تستمتع بدفئه حتى سكنت وغفت ..
خرجت من المطبخ علي وصول السيارة ..
خرج منها العم نور متكأ علي عصا غليظة ..
كان وزنه قد زاد قليلا ..وبدا لونه شاحبا مقارنة بلونه البرونزى السابق ...
استقبلته بابتسامة لم تستطع ان تخفي وراءها عبوس ..
لمعت عينا الرجل العجوز بينما يقول مرحبا :"سمعت انك تطهين لهم الوجبات ...".
كانت تعلم ان الجميع قد زاره في المشفي ..
ففي يوم الجمعة قد تم تقسيمهم الي قسمين ليذهبوا لزيارته .
الا انها وزوجها لم يفعلا لانشغالهما ..
اعتذرت :"اسفه لانى لم ازورك ".
" لا عليك ...يكفيك ما فعلتى ".
ظهرت غمامه علي عيونها واظلمت قسماتها ..
برغم كلمات الرجل المنتقاة الا انها تذكرت زوجها ... انه خرج دون ان يودعها ..
دون حتى :"الي اللقاء"
خرج دون اهتمام ..
اوجعها ذلك منه ...
بالطبع لم تتوقع منه وداعا مؤثرا ..ولكنها زوجته ..و امرأته ...حتى اشعار اخر ..
كان عليه ان يقل( وداعا)..
سألها الرجل باهتمام :"ماذا طهيتى لهم ؟؟"
كانت تتحدث بالتفاصيل عن ما اجادته ..بينما يخبرها هو بتفاصيل دقيقه تكسب الطعام مذاق اطيب ...
"لكل طاهى تفاصيله الدقيقة ...تفاصيل تساعد في جعل مذاق طعامه افضل ...انها كالاسرار ..لا يتشاركها سوى مع القلائل ".
قالت تستأذنه:"المعذرة ايها العم ..لم يتبقي وقت كافي لاعد حقائبي ".
اوقفها الرجل مستنكرا :"هل ستذهبين وتتركينى دون مساعدة"؟؟
هزت رأسها بعدم فهم فأوضح:"مازالت لا اجيد الوقوف علي قدمى واحتاج الي مساعدة كبرى ..والا كيف ساطعم هؤلاء الخناشير !!"
ثم استطرد مؤكدا :"واعتقد ان هناك من بحاجة الي تعلم طهى بعض الاصناف ..كالمحشي ".
لمعت عيناها بينما تجيب :"محشى ورق العنب؟؟!"
عدد الرجل علي يده :"ورق العنب والملفوف .. والباذنجان. .والكوسة".
اوقفته :"لكن طارق".
اجاب ببساطة :"دعيه لى".
******
كانت تجلس في المطبخ وقد اتقنت حفر الباذنجان والكوسة دون اتلافهما ..
شعرت بالزهو لهذا الانجاز ..
لذيذ ان تصنع نجاحا ولو صغيرا ...كالاشتراك في طهى وجبة لذيذة ..
دخل زوجها ..
تعرف صوت ضربات اقدامه علي الارض ..
كيف؟؟
لا تعرف كيف تميزها ..
لكنها تعرف ..وتعرفه من رائحته ..وتعرفه حتى من دون كل ذلك ..
انه الاحساس ..
كأن هناك شيئا داخليا يخبرها انه هنا ..فتلتفت فتجده ..
ربما هو شيئا روحانيا ..
لم تلتفت هذه المرة ..
وشعرت برهبه ..وترقب..
ربما خوف ان يتهمها بالبقاء لأجله ..
حسنا هى تبقي لاجله ..لما الانكار ...
لكن ..
لكن لن تقولها ..
لقد بقيت لمعاونة العم نور ...ذلك المسكين الذي يحتاج الي المساعدة حتى يتخلى عن عكازه ..
شعرت بنظراته عليها. فرفعت عيونها اليه. ..
كان واقفا في عيونه اسئلة لم تتجاوزها .
ربما لوجود العم نور ..
ذاك الذي بادره :"اهلا يا طارق ..كيف حالك يابنى"؟
احتضنه طارق بصدق :"كيف حالك ايها العم الطيب ..افتقدتك ..وافتقدت طهيك الرائع ".
اجاب الرجل بفخر :"لقد تركت لكم افضل مساعدينى علي الاطلاق ".
كانت تلك مزحة لا ريب ..
لكنها لم تستطع الابتسام وسط الترقب ..
وكأن العم نور فهم الجو المشحون حوله فقال:"لقد طلبت من علا البقاء لتساعدنى ..فانا كما ترى لا اجيد بعد الوقوف طويلا ..واحتاج الي المعاونة حتى اتوقف عن استعمال تلك العصا ".
صمت طارق ..فأكمل الرجل :"هذا بعد موافقتك بالطبع."
اخيرا اجاب طارق مجاملا :"بالطبع ..بالطبع ..حمدا لله علي سلامتك ...وعلى عودتك لنا ".
تنهدت ارتياحا امام تقبله ..
وان كانت لا تعرف هل تقبلها بصدر رحب ..ام مجاملة ..