الفصل الرابع والثلاثون

257 11 0
                                    

الفصل الرابع والثلاثون

تقدمت السيدة انتصار من شادي وربتت على كتفه وقالت:

" أذكر أنها لمحت سابقا إلى أنها يتيمة وفي زفافها نطق عمها بكلمة شغلت بالي، قال أن والدها مفقود مع ذلك اخترتم تجاهل هذه الحقيقة"

التفتت نحو زوجها الذي كان يحاول استيعاب الصدمة التي تشهدها عيناه، فاتسعت ابتسامة المكر على شفتيها ثم اقتربت مني وقالت بخبث واضح في نبرتها:

" ألن ترحبي بوالدك يا إيلينا؟! عيب عليك أن تقفي هكذا بلا حراك؟"

نظر الرجل في عيني ملهوفًا، أعلم أنني كنت في الخامسة عندما غادر حياتنا، لكنني ما زلت أذكر ملامحه كأنها محفورة في ذاكرتي، هو ذاته لكن مع بعض التجاعيد التي تتخلل وجهه الأبيض وشعره شاب عن ذي قبل. تراجعت إلى الخلف وأشحت بصري بعيدا عنه وقلت محتدة بصوت خافت:

" أنا لا أب لدي!"

لم يحرك الرجل ساكنًا كأنه يعلم بردة فعلي مسبقا، أمالت السيدة انتصار رأسها تصطنع الأسى وقالت :

" آه يا ابنتي! لا تخافي منه فهو لن يؤذيك! لقد أقلع عن تلك العادة السيئة!"

أخيرًا تمكن عمي من إيجاد صوته الضائع ليسأل مترددًا:

" أقلع... عن ماذا؟"

شهقت متصنعة دور المصدومة وغطت فمها ووجهت نظرها إلى شادي قائلة:

" أخفت عنك زوجتك حقيقة والدها؟ ألم تقل لك أنها عاشت تحت سقف واحد مع مدمن مخدرات؟!"

شحب وجه الجميع بمن فيهم أنا، وألقى أبي نظره أرضا محرجا متضايقا من موقف السيدة انتصار. أخيرا استجمعت شجاعتي وصرخت عاليا:

" كفى! هذا الرجل لا يستحق أن يكون أبا، لو سمحت غادر ولا تحاول التواصل معي أبدًا"

بكى الرجل وهتف مترجيا:

" إيلينا ابنتي! أرجوك اسمعيني!"

ركضت مبتعدة من أمامه متوجهة نحو السلالم وأنا أصارع دموعي وأغطي أذني بيدي، تجاهلت نداءه المتكرر لي حتى وصلت الغرفة وأوصدت الباب على نفسي. جلست أرضا أحتضن ساقيّ إلى صدري ودفنت رأسي على ركبتي وشرعت في البكاء بصمت مرير.

أفقت على صداع رأسي من شدة ما بكيت، نهضت جالسة لأكتشف أنني على أريكتي، التفتّ من حولي ففوجئت برؤية شادي واقفًا متكئا بكتفه على باب غرفة الملابس وهو يطالعني بنظراته، حك جسر أنفه بإصبعه ثم تقدم نحوي بخطى متمهلة.

حافظت على سكوتي لئلا أتكلم بشيء أندم عليه. اتكأ على مسند الأريكة جالسا ونظر إلي، تنهد قليلا ثم سألني:

" لماذا لم تبوحي بشيء عن والدك سابقًا؟ ما الهدف من إخفائك سرًا كهذا؟"

أجبته محرجة:

Das wird dir gefallen

          

" لأن حقيقة كونه مدمن مخدرات جلب العار إلينا وبسببه....... وبسببه حلت المصائب علينا"

ذرفت عيناي الدموع عندما بدأ خيط من شبح ذكرياتي يتسلل إلى ذاكرتي، تذكرت أمي التي أنهكتها ضرباته المؤلمة لتقع مغشيا عليها على الأرض القاسية، وليان وهي تحوطني بجسدها تدرأ عني ضرباته بحزام بنطاله ليتسلخ جلدها و يمتلئ جسدها الصغير بالكدمات في كل مكان.

تذكرت عندما كانت توصد الباب علي لئلا يتمكن من الوصول إلي، وقلبي الذي لا يهدأ عن الخفقان من شدة الذعر وأنا أسمع صرخات أمي وأختي تتعذبان بين يديه.

بكيت بمرارة وقلت:

" جعلنا نتجرع المر، وعشنا طفولة قاهرة مريرة مليئة بالدماء والوحشية، لولا ليان التي كانت تحميني منه لكنت الآن .... لا أدري ربما ميتة أو في مصح عقلي!"

تجرأ على الاقتراب أكثر وجلس إلى جانبي، نظر أمامه وقال متسائلًا:

" ماذا حصل؟ كيف .... تخلصتم منه؟"

أجبت:

" لا أعرف الكثير لأنني كنت طفلة صغيرة حينها، لكنني فهمت أن خالي سعى لجلسات طلاق أمي ثم أخذنا إلى بيت جدي، أما أبي فقبضت عليه السلطات لكنهم أخذوه إلى مشفى بسبب جرعة زائدة كادت تودي بحياته ولم أعلم عنه شيئا منذ ذلك الحين، غير أنه وصل إلى مسامعي مرة هروبه من المشفى وبحثهم عنه"

قطبت حاجبيّ وزممت شفتي وأضفت وأنا أصارع دموعي:

" عندما علمت بهروبه ازدادت كوابيسي وأنا ألمحه في منامي ينقض علينا بوحشية فلم أكن أنام إلا في حضن ليان.... أما أمي فكانت تغيب عنا معظم الوقت من أجل جلسات علاج الاكتئاب التي لم تتمكن من متابعتها بسبب تراكم الديون على خالي بعد إفلاس الشركة التي كان يعمل فيها، ومع ذلك فإننا بين كل فينة وأخرى نحضر لها بعض العقاقير المهدئة كلما سنحت لنا الفرصة ووجدنا معنا بعض المال، لكن تأمين دوائها دون وصفة طبية كان يتعسر علينا معظم الأحيان، حتى تستعين ليان ببعض من معارفها...."

ثم استسلمت لدموعي التي غطت مجال رؤيتي، سمحت لنفسي بإخراج ذاك الكبت من داخلي، علما مني أنني سأنفجر إذا لم أبكي.

فوجئت بشادي يمد ذراعه نحو كتفي ويحتضنني إلى صدره لأبكي فيه، دفنت رأسي في صدره وأكملت نحيبي المتواصل دون انقطاع، وفي رأسي مئة سؤال وسؤال... أين وجدته السيدة انتصار؟ كيف وجدته؟ كيف أحضرته؟ هل ما زال يتعاطى؟ أين كان كل هذه السنين؟ وغيرها وغيرها الكثير فكاد رأسي يتفجر.

نهض شادي يرفعني من كف يدي وقال:

" لا يصح أن تبكي هكذا، عليك مواجهته لتنهي تلك الحلقة المفرغة من حياتك، تعالي معي إلى الطابق السفلي وكلي شيئا يمدك بالطاقة، فأنت أصلا لا تشاركيننا في الفطور"

أعد إليّ روحي التّائهةWo Geschichten leben. Entdecke jetzt