المَوكب || دفوف حبشيَّة!

24 4 2
                                    

أنت تنظرُ لي على أنني مجنونٌ الآن..

من أنا و ما كلّ هذه الحكايا العشوائيّة الّتي أسردها عليك منذُ وقت.. و يسهل عليّ أنْ أرى مدى ترقّبك للمكانِ الآن.. أنا أعرفُ أنّكَ تشعرُ بهم، إنّهم يصيبونكَ بالقشعريرةِ.

لكنْ لا بأس، لقد تقلّدتَ الصبرَ لفترةٍ لا يستَهانُ بها حتى الآن.. ولا أظنّ أنّ القليلَ من الوقت الإضافيّ سيزعجك.

في الواقعْ إنّك الآن أمامي.. و هو الجزءُ الأسوأ ،فكلانا يعلمُ أنّك لن تستطيع الفرار بعد الآن.

ما كلّ هذه الهلاوس صحيح؟
تمهل،، نحنُ لا نزالُ لم نسهب بالحديث..

استمع لي الآن بحرصك المعهود...

--------

أدْرَكَ الصَّيادُ أنّه باتَ يمشي كالخروف خلف تلك الطفلة.. حتى وصل لمكانٍ في أطرافِ المدينَةِ.. لا يشبهها أبدًا، مكانٌ يبدو عليهِ الفقرُ و الجوعُ و الجهل...

دخلت الطفلة بين البيوتِ الطينيّة و الخيامِ المبنيّةِ من الملابس الباليةِ.

و كادَ أنْ يتعبها إلى أن صفعته الصّدمةُ في وجهه حينَ ظهرَ له من العدمِ العجوزُ نفسه..

أجل، ذلك العجوزُ الذي ابتاعه الصندوق...
لا ينسى تلك الذقنَ المتهدلَة و اللحيةَ المتآكلة.

-أخيرًا!

فكّر الصياد لكنه لم يتمم فرحته.. مشى العجوز نحوه فجأةً و أمسكَ رأسَه بعنفٍ فاجأ الصياد..

كيف لرجل في هذا السّن أن يكون بهذه القوة و الصحةِ؟!!.. في الحقيقةِ شَعَر و كأنّ يديِّ رجلينِ كاملين تطبقان على رأسه..

أمسكَ الصياد بمعصمي العجوز مقاومًا له و قالَ بغضب :

-" من أنت يا هذا؟!".

لكنّ العجوز بلا جهدٍ حرك إحدى يديه من طرفِ رأس الصياد إلى عينيهِ ليغطيهما بكفّه.. تلك الكف التي تعلوها أصابعٌ أظافرها طويلةٌ كأساطير العجزة.

ما إن فعل ذلك حتّى تراءتْ للصيادِ مشاهدٌ و لقطاتٌ غريبة..

تارةً ملابسُ عروسٍ برؤيا مبهمة.. ثمّ مرآةٌ تعكسُ وجهَ عفريتٍ لكن من تقفُ أمامها امرأة لا يرى منها الا ظهرها المغطى بشعرها المخملي..

و تارةً أخرى جمالًا تحمل الهوادِج تمشي في موكبٍ ضخمٍ وسط صحراءٍ كبيرة.

شهقَ الصيادُ عندما شعر باليد تزولُ من على عينيهِ كما زالَ العجوز كله.

أينَ هو؟؟؟!!
أين ذهب؟!
أي تعويذة هذه؟!

أخذ يفكر بذعر بيننا يتخبط بجميع الاتجاهات في ارتقابٍ و رهبة.

لكنّه تذكر لمَ هو هنا،، الطفلة!!

فسارعَ بالخطوِ ليتعثّر بما كان أمامهُ مباشرة..
أجل الصندوق!!.

الصندوقُ الذي باعهُ للرجل الطاعن!

فقرّر أن يأخذه دون أن يفتحه و يتبعَ الفتاةَ..

راحَ يبحثُ بين الأماكنِ و السراديبِ و الأروقة.

لقد اختفت.. لكن مع اختفائها تعالتْ أصواتُ دفوفٍ تُقرعُ بشدّة.. و مزاميرٌ تصفرُ الدندنات قُرَشيّةَ الألحانِ حبشيّةَ النّغَم.

مشى الصَّيادُ متتَبّعًا هذه الأُعازيفَ من بينِ البيوتِ.. حتّى نفذَ إلى شارعٍ مرصوفٍ و معبدٍ بالطّينِ الأصيل.

هنالكَ اجتمعَ النّاسُ بعباءاتَ حمراءَ حول الطَّريق، يفسحون المجال لممرّ لشيءٍ ما.. كما المَوْكب..

فتدافعَ الصيّاد من بين المارّة حتّى وصلَ لمقدّمتهم..

هنالك،، و من آخر الشّارع.. برز ما يشبِهُ الجمال و على ظهورها شيءٌ...

فاقترَبَت الجمال أكثرَ فأكثر.. ببطءٍ حتى رأى تلك الخيَم الصَّغيرةَ فوق ظهورِها.. خيٌ تتأَرْجَحُ يمينًا و يسارًا.

و في ذلك المَوْكِبِ الضّخمِ بدأَ يسيرُ الأشخاصُ معهُ..

كلّ من كان حولَ الصّيادِ بدأوا السَّيرَ خلف ذلك الموكب.. بدونِ أيّ تعابير،، فقط ينظرونَ لما أمامهم في الأُفقِ....

لقدْ وقفَ كالمجنونِ بينهم.. لا يعرف ماذا يصنع.

حتّى عندما زالَتِ الحشودُ بانتْ له من بينهم الطّفلةُ مجدَّدًا على الجانِبِ الآخرِ من الطّريقِ.. تنظُرُ له بخوفٍ..

ثمّ ركضَتْ مجددًا نحو الأزِقّة..

فتبعها الصّيادِ.. لكن هذه المرَّة.. هو أكثرُ اصرارًا على عدمِ اضاعَتِها.

ركضَ خلفها هو الآخر...

فوجدَها تدخلُ بيتًا عتيقًا قديمًا مهترئًا..

فدخله بهدوءٍ وراءَها...

حتى وجَدَها تجلِسُ مديرَةً ظهرَها على الأرضِ...

رأسها ينظر للأسفل... فأصابَهُ الفُضولُ..

و عندما التفّ ببطءٍ وجدها تنظُرُ لمرآةٍ صغيرَةٍ..
وجهُها عليْهِ ملامحُ اعجابٍ و عَظَمةٍ كبيرَيْنِ.. حدّ الجُنونِ ربّما.

لكنّهُ عندما نظرَ للمرآةِ.. وجدَ مخلوقًا قبيحًا ،بل مخيفٌ جدًّا..وجدَهُ يبادِلها نظراتِ الاعجابِ الغريبة..

ما هذا بحق الآلهة!

الهَودَج - The Howdah حيث تعيش القصص. اكتشف الآن