الفصل الرابع
التقطت فارديا نظرة جمال في الجانب الآخر من المتجر في تذكير واضح منه لها بوجوده .. قبل أن توميء له مطمئنة وتعود لتعير انتباهها للرجل الأربعيني الجالس أمام مكتبها يتحدث إليها بقلق
:- كما أشرت لك فارديا ... وضع والدك يقلقني ...
السيد حسام صديق قديم لوالدها .. بالإضافة إلى عمله كمحاسب في مصنع النسيج الذي يمتلكه والدها .. ذاك الذي ورثه قبل سنوات من والده ..
:- الديون تزاحمت ... والعمل يتجه نحو الأسوأ .. إن استمر الأمر على هذه الحالة فإن والدك لن يخسر المصنع ... بل والمنزل أيضا
تمالكت نفسها محاولة منع نفسها من الإصابة بنوبة جزع وهي تقول بهدوء :- أنا لا أفهم يا عم حسام .... لطالما كان عمل والدي جيدا ... لا أذكر انه قد عانى قط من المشاكل المادية ..
:- لم يكن قبل وفاة والدتك ... منذ ذلك الحين وهو يعاني من حالة غريبة من الضياع ... صفقات فاشلة .. مبالغ كبيرة ضاعت لأجل شراء أشياء غير ضرورية ... ما عاد والدك حتى يهتم بإرضاء زباءنه .. إنه يخسرهم الواحد تلو الآخر ... والدائنين يطرقون الأبواب مهددين بالفضيحة والقصاص ..
قالت بتوتر :- هل تقول لي بأن أبي قد أفلس يا عم حسام ... مستحيل ..
قال بإرهاق :- ليس مستحيلا فارديا ... لقد أنفق والدك بالفعل أمواله كلها خلال السنوات السابقة ... إنه لا يملك حتى ما يسند نفسه به ...تعرفين بأن والدك لم يكن بالرجل المدخر بطبعه .. ووالدتك رحمها الله .. آه .. كانت تتمتع بذوق مكلف جدا في أسلوب حياتها ..
احمر وجهها وهي تتذكر والدتها التي لم تبخل يوما على نزواتها ورغباتها ... ووالدها لم يحاول يوما منع ما تشتهيه عنها ... لقد سافرت ورأت العالم كله معه ... ارتدت أجمل الثياب وتحلت بأثمن المجوهرات .. منزلها كان تحفة فنية في الذوق الرفيع .. لم تفكر فارديا يوما كما لاتظن والدتها قد فكرت أيضا بما يكلف والدها محاولاته الدائمة لإرضاءها
تمتمت بقلق :- ماذا علينا أن نفعل يا عم حسام ؟؟؟ لن أسمح لأبي بخسارة المصنع .. سينهار تماما إن حدث هذا .. أما عن خسارة البيت لصالح الدائنين ...
قاطعها قائلا :- أفهم تمسكك بالبيت فارديا ... إلا أن الاحتفاظ بالمصنع قد يكون صعبا ... صحة والدك قد أصبحت عائقا على أي حال في وجه متابعته لعمله ... من الأفضل له أن يبيعه ويصفي محتوياته .. أن يحاول إيفاء ديونه قبل أن يتطور الأمر فيخسر المزيد ... لقد سبق وتحدثت إليه إلا أنه واجهني بنوبة غضب بالكاد نجوت منها .. أنا أعرف كم يحبك فارديا ... تحدثي أنت إليه ... قد يستمع إليك ...
عندما غادر تاركا إياها غارقة في أفكارها اقترب جمال قائلا بقلق :- هل أنت بخير فارديا ؟؟ هل من مشكلة ؟
نظرت إلى القلق الصادق في وجهه وابتسمت قائلة بشحوب :- ليس هناك ما أعجز عن حله ... لا تقلق ..
:- ماذا عن كوب من المثلجات بالشوكولا ؟؟ أعرف بأنها المفضلة لديك .. ما رأيك بأن أحضر لك واحدا من المتجر الذي تحبينه ؟
برقت عيناها مما جعلهما تبدوان كقطعتين من الياقوت الأزرق وهي تبتسم بإشراق :- ما الذي فعلته لأستحق دلالا وكرما مماثلا من صعب المراس جمال ..
قال باستهزاء :- لا شيء ... فأنت من سيدفع يا رئيسة .. ما أنا إلا موظف مسكين ..
غادر متجها نحو متجر الحلوى الواقع على بعد شارعيين وهو يشتم من بين أنفاسه ... ربما فارديا لا تريد إغراقه بمشاكلها .. إلا أنه ليس أصما .. لقد سمع حديثها مع الكهل القلق ... فارديا لا تستحق أن تحمل عبئا مماثلا بينما تتسكع شقيقتها لوتس بدون عمل سوى اللهو هنا وهناك بدون أي مسؤولية
داخل المتجر .. كانت فارديا تفكر بمشكلتها بقلق ... لماذا لم تعرف بأن والدها يعاني من المشاكل ؟؟ هل كانت أكثر أنانية وانشغالا بنفسها كي تلاحظ إرهاقه وقلقه ؟؟ هل كانت منشغلة بمتجرها الغبي .... يا إلهي ... لقد اشترى لها المتجر قبل وفاة والدتها بفترة قصيرة .. وساعدها في تأسيسه ... هل كانت هي أحد العوامل التي أدت إلى إرهاقه ماديا والانزلاق بعمله بهذا الشكل ... هل كانت تستنفذ والدها ... تمتصه حيا كما كانت تفعل والدتها تفعل في حياتها ؟؟؟ هل يجعلها هذا بالفعل نسخة منها ؟
اغرورقت عيناها بالدموع وغصة تخنقها .. لن تبكي .. لم يسبق أن بكت ... لم يسبق أن شعرت بالحاجة للبكاء .. حتى يوم وفاة والدتها ... صمدت هي ولوتس دون أن تذرفا دمعة واحدة .. فقد كانت والدتهما تجهزهما قبل سنوات طويلة لهذا اليوم ... كانت تقول بأن الفقدان جزء من الحياة .. إن لم نتعلم كيف نألف مذاقه .. ما أجدنا العيش بسلام ... لقد علمتهما بكل جهد كيف تستقلان بنفسيهما .. وقد فعلتا .. كل منهما تشعر دائما بذلك الاكتفاء ... بعدم الحاجة إلى أحد ... حتى والدها .. ما شعرت إحداهما يوما بالحاجة إليه وهما تمتصان مشاعره وأمواله كوالدتهما دون مقابل ... حتى الآن ... لم تشعر فارديا بالحاجة إلى والدها حتى فقدته ... وهو ما يزال على قيد الحياة ..
ارتفع رنين الهاتف فأجابت بدون تفكير :- متجر بوفارديا للزهور
صمت لفترة صغيرة جدا أتبعها صوت يقول :- لماذا تبكين ؟
ذعر استبد بها عندما أدركت بأن صوتها الأجش قد فضح مشاعرها ... هتفت غريزيا :- انا لا أبكي .. أبدا
صمت آخر .. قبل أن يقول بهدوء ... لم يكن هدوءا بالفعل .. لقد كان شيئا آخر .. أكثر ظلمة :- كلنا نبكي .. في وقت ما ..
تلاحقت أنفاسها وهي تميز الصوت .. كانت أسابيع قد مرت منذ اتصاله الذي لم تستطع نسيانه ... خلال لحظات تمالكت أعصابها وهي تقول :- كيف أخدمك ؟
:- سأبدأ بباقة زهور أخرى .. تضاهي سابقتها جمالا .. تمتلكين أنامل ساحرة ..
توترت والإطراء يتغلغل داخلها عميقا قويا ... بلا استئذان .. وقالت كاذبة :- لا تهدر إطراءك .. لست أنا من نسقها في المرة الماضية ..
قال بصوت ينضح بالخبث :- لا تستسلمين أبدا .. صحيح ؟؟
لم تعرف لم شعرت بأن معنى كلماته قد تطاول ليمس ما يفوق باقة الأزهار .. فردت عليه بصلابة :- صحيح ؟
:- جيد ....
قالها برضا وهو يكمل :- ماذا عن باقة الأزهار تلك ؟
سحبت دفتر ملاحظاتها وهي تقول :- أتريد السوسن مرة أخرى ؟؟؟
:- لا .. فلتختاري النوع بنفسك .. أجدني أميل للثقة بذوقك ..
أدهشتها رغبتها في مشاكسته .. في تحديه أكثر فقط لتطيل المكالمة .. كبحت رغبتها هذه بذعر وهي تقول بتوتر :- متى تريدها جاهزة ؟؟؟ ... نستطيع إيصالها لك إلى أي مكان تريد
:- لا ... سيمر رجلي لأخذها ...
بفضول لم تستطع السيطرة عليه قالت :- ماذا عن الاسم ؟
صمت للحظات ثم قال :- ن ف .. كما في المرة الماضية .. هذه المرة ستكتبين اسمها على البطاقة
اسمها ؟؟؟ هل يرسل الأزهار إلى امرأة ؟؟ تشنجت أصابعها فوق القلم وهي تقول بصوت لا تعبير فيه :- وما هو الاسم
قال بصوت قاسي جمد الدماءفي عروقها :- أماني ... أرسليه إلى أماني
أنت تقرأ
زهرة في غابة الأرواح(الجزء الثالث من سلسلة للعشق فصول)مكتملة
Romanceرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الثالث من سلسلة للعشق فصول حقوق الملكية محفوظة للكاتبة blue me