"ونحنُ بِما يؤذينا هائمون"جسد هامد، كجثة محنطة.. بشعر مموج طال الى ان وصل نهاية ظهرها، كان منثورًا على المخاد، مُلقاه فوق سرير واسع.. وسط غرفة مدبوجة ببياض لا نهائي.
كطائر جريح برمحٍ باغٍ فوق قمم ثلجية.
تكسر تلك الهيئة الانثوية اهبة اللون بارتدائها قميص اسود ينافي ما حولها من نقاءٍ وضياءٍ، سلامٍ وخيرٍ.. لربما كانت تحاكي واقعية موضعها من ظلام وغيهاب.
تُنير الاضاءات البيضاء الخافتة، الملتحمة بالجدران عتمة هذا المكان.. كان كُل ما حولها مطموس في سواد عداها.. مسلط عليها بريق باهت.
اقدامها تنجذب لاعلى قليلًا.. بينما بطنها تنبض من ركلات الجنين القاطن في احشائها.. يتلوى جسدها ببطء.. مصحوب باشتداد اعصابها، وانين حفيف.. اثناء مرور كوابيس لياليها الفائتة.. يصور عقلها بأنها اضغاث احلام لا تعلم بأن ما عاشته مدة اسبوع بأكمله يُعاد على هيئة حلم ومضى.. وهو واقع قد سجا.
يتكرر عليها مشاهد بذات الوتيرة من الصراخ المتعالي الخارج من حنجرتها، وباختلاف الوضعيات كانت ترتعد وتتموج باضطراب.. ترفس وتركل، تنتحب وتصيح..ولكن النتيجة واحدة اقحام إبرة داخل وريدها فترتعش الجفون، حاظية بنومٍ مرهق.
هكذا كانت تتحاذف عليها الاحلام.. مرة هو من يقوم بالفعل ومرة امرأة ترتدي "يونيفورم".. جاهلة سحنتها.
تشعر بارتخاء كامل لجسدها.. وتصلب اطرافها، عيناها تنتفض.. تشنج كاسي بدنها.. وصوته يتداخل هامس بالقرب من اذنها.. تأتيها بضع كلمات غير مصاغة بشكل جيد.. يتحسس بدنها بعشوائية.. تغلق نواظرها بألم عميق.. يتضاعف.. تأوهات تشق طريقها بجهد مفرط حتى تُصدر بخفوت.. وبعدها تحس بثقله بجانبها.
هكذا كل ليلة.. يرتدي جسدها بوحشية.. يطحنها اسفله.. لدرجة الهلاك بلا توقف.. ودون ان يعير حملها اي اهتمام. عاشت ليالي داجنة بين صحوة وغفوة.. لا تميز بين الهلوسات والحقيقة.
ضجت شهقة من اعمق بؤرة داخلها، وهي تفيق ناهضة.. وكأن الروح عادت الى الجسد كانت تهتز وتنتفض.. صغرت عيناها، وارتفعت يدها تخفف سقوط الضياء على ناظريها.. تأملت ما حولها بدهشة وروعة.. وجدت نفسها بمفردها، كان الهواء متضوّعًا برائحة الكحول الطبية الحادة، فيما بلغها صوت آلة يصاحبه إيقاع قلبها. حاولت تحريك يدها اليمنى، لكن ألمًا باترًا يمنعها من ذلك. نظرت الى يدها وران اليها إبرة مصل معلقة بساعدها.
تسارعت نبضات الخفاق بتوتر محتوم، فزادت الالات من سرعتها، وراح طنينها يتسارع هو أيضًا.
افلتت تنهيدة.. حين احست بألم حادًا في راسها.. وكأنه يفلق جمجمتها لنصفين.. فمدت يدها الاخرى بحذر شديد.. تضغط على فروة رأسها أملًا في تخفيف ما يفتكها.. أغمضت عيناها في محاولة لتتذكر ما حدث لها.. الا ان الذاكرة ممسوحه بالكامل.. مجرد فراغ تام.
تلبدت أجزاءها ولُصقت ببعضها.. برودة تجتاحها.. تشعر بزمهريرا في اطرافها تزداد وتنبض.
زمت شفاهها، وعقدت حاجبيها بألم مضني جسدها.. تنفر تأوهات من ثغرها.
-ااااه..... يالله وش الّي صابني!!!
ذكرتها وتشد على بطنها.. بطرفٍ مخضل... تشهق وتزفر بعجل أملًا في تخفيف الوجع.. حتى بدأت تستوعب ما حولها.. جالت نواظرها في المكان.. كيف، ومتى حضرت هُنا؟!
لابد انها فقدت عقلها، كيف لا تتذكر شيء، الا دهاليز واوهام؟!
وادارت رأسها ببطء شديد، واحتراز.. الى النافذة، كان الظلام مخيمًا بالخارج، ما يعني انه الليل.
رجفت يدها وهي تنزع الاسلاك المثبته على جسدها..
مبعده اللحاف من عليها صداع يكاد يخرم جمجمتها، ورجفة تختل اطرافها.. الا أنها وقفت تسير بتأني، ولا تزال ذراعيها تحاوط بطنها.. تعض شفتها السفلية بوجع ينخل جسدها.. تقدمت ناحية التسريحة فاتحة انوارها.. وذاك الجهاز يتصاعد صوت انذاره.
-لا.. لا.. لا!!!!!
ذكرتها بارتياب وبحة بكاء راجفة.. متربصة نحرها وعنقها.. سحبت كُم قميصها بتردد، فنسدل على ذراعها.. ارتعش فكها من وسومٌ زخرفت بعبثية متفرقة.
مسكت طرف التسريحة بوهن.. حين استشعرت بفقدان توازنها، تزاحمت الغصات داخلها.. ويتراخى جسدها منجذبًا لاسفل.. تبكي بكاء الملكوم.. يرعد كل ما بها.. وتهتز متونها.. طغى وتمرد، احرقها وجرحها!! كيف يحمل الانسان هذا الكم من الجرم والعنف والطغيان!!
باي مكانٍ رذيل ثوبت! انُسمي هؤلا بشر!! لن ترحم الايام.. من يفسد أو يخون.
تشد على ذاتها وهي ترفع يدها لتتمسك بطرف التسريحة في محاولة للوقف.. نهضت بحذر تسير ناحية الباب.. تمسح تقاسيمها المبللة.. ويدها على خاصرتها المهترئة من قبضته الخشنة.
احكمت مسكتها اكثر على مقبض الباب.. رفعت حاجبها بصدمة من قفله.. شدت اكثر عليه تحاول ابلاجه لكن كان مؤصد.. ضربت بيديها الباب، صارخة: هااااااي.. ذياااااب افتح الباب.. افتح الباب.. ذيااااب.. افتح يا ذياب.. افتح البااااب... ذيا.... اقتطعت كلماتها لما تراءى اليها شروع الباب، متصلبة امامها امرأة ترتدي "يونيفورم" ازرق، جلية وقوية، مثل تمثال.. كان لديها فك صارم وقوي.. وعينيها البندقيتا عميقتان بدتا غير حميمتين، ترفع شعرها الاشقر لاعلى بتسريحة الكعكة.. راسمة ابتسامة خفيفة على معالمها الجامدة الغير ودوده، تدلت من عنقها تميمة من اللازورد على شكل ثعبان ملتفت حوله صولجان.. صرحت بنبرة رسمية، هادئة: how are you doing today Mrs. zain ؟
حدقت فيها طويلًا بدهشة، فقد كان بالكاد عليها التركيز، وارتجفت شفاهها وهي تردف: ?! Where am I
-your house
ثم اكملت وهي تشير بذراعها لمكان السرير: Mrs. Zain, you've better to get a rest for your safety
كانت في ريبة مما تسمع.. هناك فكر هائل يطحن دماغها.. وهذه الغريبة الواثبة بصرامة تثير رهبتها.. تقدمت بخطوات سريعة دافعة الباب خارجة.. وهي تكرر اسمه بنبرة عالية: ذياب.. ذياب!!!
التفتت للخلف حين تناهى اليها صوت الممرضة تتمتم بكلمات لم تلتقطها بسبب طنين أخترق طبلة اذنها.. لكن تلك الحركة سببت لها ألمًا حادًا في جمجمتها.. مما جعلها تتأوه.. وتمسك جبينها.
تراجعت خطواتها للخلف بربكة، حين تقدمت الاخرى منها ولاتزال الابتسامة الهادئة جاثمة على فاهها: Mrs. Zain, I will track your health condition.. Please go back to bed.
رمقتها بنظرة حادة، ونبرة صارمة: ..where's he
?where's Diab
-Sorry Mrs.. I don't have any idea
ادارت ظهرها وتتحرك باحثة عن مكانه، تصيح باسمه: ذياب.. ذياب!!
-I told you.. you need to get rest.. so kindly go to your room
صاحت زين، وهي ترفع معصمها محذرة.. حين حاولت الممرضة امساك معصمها:.. don't touch me
تسارعت انفاسها، ونظراتها تحول بين اربعة من الخادمات خرجن، من غرف متفرقة.. ينظرن لها.
كاننّ يرتدن فستان اسود حائر على الساق.. برفقة مئز ابيض يربط على الخاصره.. جميعهن من ذوات البشرة البيضاء.. والشعر الاشقر، المربوط بذيل حصان.. عدا واحدة من البشرة السوداء.
بدأ الرعب يسيطر عليها، لا شيء يقبع في ذاكرتها سوى مشاهد غير مترابطة.. كان الالم الذي استبدّ رأسها يكاد لا يطاق، وبصرها على المدى القريب ظلّ ضبابيًا.
قالت وهي تكافح على عدم هبوط جسدها لاسفل: I
want my phone
عاينت العاملات يتبادلن نظرة استغراب.. اما الممرضة لا تزال متصلبة دون اي تعابير تذكر.. غير الهدوء المشع من مقلتيها وثبات جسدها بشكل مستقيم.
علت نبرتها قليلًا: do you hear me.. I want my
!!phone
استحوذت الدهشة والغضب سحنتها، اثناء انسحاب العاملات والعودة من حيث اتن.
****
على سمرة الليل، ونجومه الساطعة ببريق ماسي.. وهلال الشهر يُنير البقاع، فلم يبقى الكثير لـ يزولا.
تجلس بثوبها المخملي العودي بزهو.. فوق الكرسي المتأرجح بخفة في الحديقة الفسيحة، محاطة بـ ورد مختلف الوانه واشكاله.. مدبسة زهرة الزنبق البيضاء على اذنها.. نسمات تداعب خصلات شعرها الاملس.. ترتشف حليب العسل الساخن بلا قابلية، فقد فقدت الشهية منذُ ايامٍ عديدة.
وكانت كلما صعدت فيه نظرها، فأحفظتها جبروته، وفتوته.. وزادها انفعالًا وتهيجًا كلما رأته مقبل من منزل الاخرى، ظاهر على تقاسيمه الدعة والارتياح.. بخلاف ما يكون معها من ارهاق واجهاد، مشغول بالاعمال مسؤول عن الواجهة والنفوذ.
كيف التعامل معك! يمن هواه القلب وناخت له العواطف.. وزاد العقل تشبث وما لانا!
مذهلًا، مشرقًا، آسرًا، موجعًا للحد المبكي!! ساحرًا كما البدايات، موحشًا كما النهايات.
لِم جئت بي الى صرحك العاج، وكنت قبلك في كوخٍ مرتاحة البال!! لا شيء يومها يوحي بأنك ستأتي وتدس حبًا في الحشاشة ينمو.. مباغتًا جاء حبك كموت الفجأة!
تركت كل شيء في حياتي وبقيت رهينة حل لغز علاقتي معك!! أنا الظالم والمظلوم.. والحاكم والمحكوم..بين عقلي وقلبي.
باتت الايام الفائتة اكثر قسوة مما سبقها، الالم الحقيقي هي النظرات الباهتة.. والجمل المتقاطعة، الفجوة تكبر حين ترق لمعان النظر وذبول اقوال الغزل.
اتى عقب منعها من حضوره للمنزل، تفاجئت حينها برقاده جنبها.. ولكن حسرة اثقلت الحنايا.. لما ران لها هدوءه وسكونه خلال الفترة الماضية.. لم تشعر بحرارة وخز عيناه.. او تأمله الثاقب الذي يخترق جسدها فيجلب رعشة حارقة.. او نثر كلمات غزلية تستطيب لها وقت الرقاد مع حضن يدفئ الجسد وحمم الالتحام تثير الفؤاد فيعصف كما العاصفة التي تمر على عجل، وتُخلف داخلها فوضى وزعزعة هادمة.
ايام تمر سمجة.. يتحدث معها وكأن لم يحصل شيء.. يبتسم لها، علاقة طبيعية يمارسها معها.. ولكنها ناقصة بالنسبة لها.. لم تعهده بهذا الكم من الجمود والجلود معها.
أكثر من حبه تحب اشتعالها المباغت بقربه.. واندهاشها من اللحظات الحلوة ليلتها.
تعلم بانشغاله مع وضع اخيه، وعمله الذي يؤرقه ليل نهار.. ولكنها لا تعذره!
ذلك بأنها فتاة لا تحب الركود والبرود في العلاقات.. تمتلك روحًا عطشة للحياة.. وهي بين الصد والوصال كانت تقف.. لا تعرف اي الطرق اسلم واكثر أمانًا للنفس الجزوعة.
في ذات مساء ليس ببعيد مستلقية على مرقدها.. تتصفح هاتفها بتكاسل.. حتى انصتت الى حمحمته وخطواته القادمة من الممر القريب لغرفة النوم.. على عجل اغلقت هاتفها.. اطبقت الجفون وتلحفت.. تدّعي الكرى.. تراه هل سيقبلها ام يتلقفها بالاحضان وقت الرقاد كما يفعل عادة! ام سينهل من وقت سباتها، ويوقضها كما اكثر الليالي.
كتمت تحركات البدن.. تحبس انفاسها قدر المستطاع.. مع ارتفاع فتيل الاناء في الترقب الحاد.. لاي السبل سينعطف ويتخذ طريقه في ممارسة الحب ويمكث.
كُل انش من جسدها يخبرها عنه، تشعر بلوعته من دون النظر فيه.
ام انه سيواصل دور الزوج المنحدر من فصيلة "الخاملون"!
يسود الصمت المكان الا من نحنحة.. وحفيف الثياب وهو يخلع ويرتدي اخر.. شدت عصبة عينيها.. لما ازاح الغطاء.. واستوى بدنه.. ثواني تمر، بل دقائق.. ولا حركة تصدر او همس يلفظ.
تقلبت على شقها، تحجب نظرها عنه.. من متى وهو ينعطف الى هذا المسار؟
هل ملَّ من ثورانها؟ واسلوب العناد والغيرة التي تتلبسها؟ هل استصعب عليه تقبل هيجان انفعالاتها!!
اتغيرت منه الطباع فلم يعد يلاطف ويعطف.. ويحسُ ويشعرُ!!
المصيبة بانه يحسن معاملتها بكل معروف وحلم والاعظمُ انه بارد، باهت لا تلين له عاطفة ولا يرق له بصر.
فما الحل ومما تشتكي!! قلة اهتمامه، ام هدوءه! ولكن هي من بدأت وصدت.. ورفضت وابتعدت.
فكم من "آهٍ"، و "آخٍ"، و "أواهٍ" دكتها دكا.. وجعلتها تلعن افكارها السخيفة المتأهبة للقياه.. فلتذق علقم سخفها.. وتراءى لها أنه منصرف عنها.. وما عاد يحنو ويترامى عليها.
وعادت الى الندامة، فرتاعت والتاعت ولكنها حبست وكتمت ما اعتلج في صدرها، فقرعت نفسها وعذلتها عما يجول في خلدها.
عضت شفتها السفلية.. مما يكتنز ماقيها.. من افكار داهمتها لـ ليالي رُسمت باتقان على فكرها.. هل عوضته الاخرى عنها! هل رقاده بجانبها جالب للضجر.. وتلك تسامره بضحكات تروي المفاصل وغزل يهيج الجسد!!
ها هو العقل اللاواعي ينسج ما ترتعد له فرائصها لمجرد التفكير فيه، وترجف اوصالها لبشاعته..تراه الان امامها.. لا غشاء او ضباب يغطش الصورة.
ضامري وسط السرير الابيض.. يمسك عنقها بيده.. ويغرس فمه في اذنها، هامس.. بينما ضاغوطها الازلي تقهقه بإثارة سحيقة، فيعلوا صدرها ويخفضُ.. ويدها تمسك معصمه.
غرز فاهه في تجويف عينها اليمنى، واطل تقبيلها.. تناشجت.. فحتواها.. متلقفها داخل صدره.
ها هي تنظر لها بـ جبروت ودساسة تنضح بالتحدي والمبارزة.. اعين فيها عتادًا وقسوة.. ثقة ومكيدة.. شقاوة وبسالة.
حاوطت كفيها عنقه.. غارسه عينيها في عين المتفرجة.. ثم مال رأسها لجيده مقبلته باسهاب واطالة.
ارتجفت شفاهها بألم طاحن.. وزخات امطارها منحدرة على الخد.. تطحن اسنانها شفتها.. واحمرار تشبع وجهها.
وتلك تعلوها ابتسامة حقيرة.. تطلق ضحكات سخية ويزداد تهيجها كلما مرر لسانه على نحرها، ويهمهم بكلمات عشق صريح.
افاقت من خيال هديم، بتقزز واشمئزاز من كل شيء.. كان قلبها يخفق بشدة، وصدرها يعلو ويهبط.. هرعت ناحية الحمام.. مستفرغة.. وتسيح الدموع بضنى نفسي يتكالب عليها.
في وسط الظلام العامي لبصيرتها، سمعت صوته خلفها.. واقشعر جسدها بنفور حين احاطت يده خصرها، والاخرى يعيد شعرها للخلف.. بينما تغسل وجهها.
-بسم الله عليك.. اخرجيه كله تاج.
اغمضت عيناها.. وتقفقف أغار كيانها من رائحته التي تميزها عن جميع الروائح.. فقبضت بشدة على حواف المغسلة.. ترتجف اوصالها كزرع خاوي.
-وش ماكله؟!
-مافيني شيء.
ذكرتها بصرامة وتأفف دون النظر فيه.. ممسكة بالفوطة الصغيرة.. تمسح وجهها.
استشعر إعراضها في تملك بدنها.. فحررها من قبضته.. وهو يقول: طيب اركدي.. امشي نروح عند الدكتور...
قاطعته بجفاء، خارجه: قلت لك ما فيني شيء.. ما احتاج دكتور.
وذلفت لداخل الغرفة، فتوسدت.. متلعفة الغطاء.. خامره اسفله.. ترتعد لعلها لا تدري هل السبب علو درجة التكيف او من عناء ومشقة الهواجس والوساوس!!
زفرت كل نفس كبحته أثر مرور تلك الليلة.. تهز قدمها بعدم استقرار.. وجالت نواظرها في الازهار.. واعتصرت يديها الكوب.. وحملقت .. حين اخترقت سيارته اهبة المكان.. متوقفة أمام الفيلا.. فأضمرت هزيز داخلي يربكها.
خرج السائق على عجل يفتح بابه.. وهبط بعد دقيقتين بجهد واضح من خفة سيره، ليس كل العادة فخطاه معجله وحثيثة.
ازاحت نظرها كما لو انها غير مدركة لمجيئه.. متشاغلة بتنسيق الورد الذي قطفته.
رفع يده مشير للسائق بالانصراف، بعد انا سأله عن اي مساعدة قد يلبيها له: تقدر تروح.
وأنباه حسه وهو يتوجه ناحية المنزل، ان تاج تجلس في مكان ما تحت الشجر، فمشى الممر الذي يفصل البهو عن الحديقة، وما لبث ان اهتدى إليها فدنى منها وحياها وصافحها: السلام عليكم.
ضغطت على يده، وارتعشت اصابعها. رانت اليه بطرف فاتن.. موزعة البال، شاردة اللب.. وهزت رأسها كما لو انها ادركت وجوده امامها.. فخافتت: وعليكم السلام.
نظرته اليها بتلك النظرة الصقيعة، تكاد تثلم فؤادها الى نصفين كلما التقى الحدق بالحدق.!
ثم ابتسم بشح.. فابتسمت محاولة اخفاء ما تضمر بابتسامة مزيفة.
هو كان يبتسم وهي تنتحب وتمزق جوفها بنفسها.
-شلونك؟
هكذا قالها بكل بساطة لم تنتظره.
-تمام.
ردت معتقلة اطنان من الدموع، وقبل ان ان تنفجر وتبدأ بالبكاء والشجن.
طأطأ رأسه: تسحرتي ولا باقي؟
عضت شفتها من ان تطلق كلمات عتب وتشكي.. من بوح سيفقد توازنها، ويخل بوتيرة صوتها.. هدرت انفاسها محرره داخلها من تراكمات مشاعر خائبة.. بخفوت: لا باقي.
-لزوم تتسحرين.. انا اكلت.. عليك بالعافية.
بسمة جانبية، وانسدلت الجفون لاسفل، بخفوت: يهمك!؟
ركز ناظريه فيها، بجدية: ليش موب مرتي، طبيعي اهتم؟!
ارتشفت شرابها لعلها تربط لسانها الراجف من كومة كلمات جاثمة عليه.
اطال النظر والصمت، ثم بدده: تبين شيء؟!
هزت رأسها نافيه.. متحاشية رؤيته.
هكذا اردفت الحروف.. هكذا تم الحوار الركيك.. وجفت التعابير وبهتت.. شعرت وكأنها لم تألفه.. كم اضحى غريبًا، كم اصبحا غريبان، لا يعرفا بعضهم!
ورانت الي بطرف مخضل، وهو يبتعد.. وان كفكفت مدامعها.. سيفضحها عويلها.. فرقت دمعة تلي دمعة.
وتراجعت بظهرها للخلف.. فيها من العتب والحكي، ما يفتت الصخر.. غبنة تعشعشت بين الضلوع والحنايا.
اما هو فتجنب الرقاد حتى انتهاءه من ارسال بعض البرقيات المهمة، والالتفات الى عمله.. ثم يهجع بعد ان يصلي الفجر.