الفصل الثالث

196 30 17
                                    

أمضينا ثلاثُ ليالٍ موحشة على أصداء زعيق القنابل ووقع الدبابات ، لم نأخذ معنا ما نستدفِئ به ،
فجعلت جدتي بين ذراعي و حاولت تدفئتها بجسدي !

كانت كلما سمعت صوت انفجار فزّت !

فأحتضنها لأشعرها بالأمان فتهدأ !

كان هذا حالنا طول تلك الليالي العجاف ، حتى نقضت حاجيات جدتي ، فطلبت من السيدة مليحة أن تعتني بها ريثما أعود ...

" سمر لا يمكنكي الذهاب بهذه الظروف "

" لا تقلقي يا خالة .. إنها حاجيات ضرورية .. سأحضرها من المنزل و أعود بسرعة "

وابتسمتُ ابتسامةً زرقاء تخفي خوفا !

ثم انطلقت متوكلة على الله إلى المنزل ، كان هذا في الصباح الباكر و كان الطريق خاليا تماما إلا من بعض الدمار هنا و هناك !

و كأن عاصفة شعواء قد اقتلعت كل شيء من مكانه !

المنازل خاوية .. و الأجواء هاجعة .. إلا من صفير كصفير شبح ينفث من بعيد لتستيقظ الشياطين على نَغَمِهْ!

أخذت بالسير بسرعة و كأن هذه الخطوات المتسارعة ستخفف من خوفي أو أنها ستحميني من شيء أجهله !

و سرعان ما زال خوفي عندما رأيت بيتنا شامخاً لم يمسسه سوء ، ففرحت كثيرا ، و دخلته و تفقدت أرجاءه ، فبدا لي كما تركته .

و رحت أجمع حاجيات جدتي ، وبعض الأطعمة و الملابس و الأغطية في حقيبة كبيرة ، و حاولت الاتصال كرة أخرى بأخي إلا أن الغزاة قد قطعوا كل سُبل الاتصال !

أحكمت غلق الأبواب ، و خرجت سعيدة بهذا الإنجاز ، إلا أن سعادتي لم تكتمل !

فقد فوجئتُ بنقطة عسكرية حديثة للغزاة تغلق الطريق المؤدي للملجأ !

لقد قاموا بوضعها للتو لمنع الناس من الدخول و الخروج ، فاختبأتُ خلف إحدى الحاويات الكبيرة ...

" اسمعي يا نفسي ! لا وقت للخوف جدتي بانتظاري ..
عليّ أن أصل للملجأ ..
لكن الجنود في كل مكان !
يجب أن أفكر بحيلةٍ ما ! "

و لم يكن أمامي سوى التفكير بأن أخرج إليهم و أقدّم بعض الطعام لهم و أرجوهم بأن يسمحوا لي بالمرور !

" هكذا و بكل سهولة !! " أخذت أحدث نفسي !
" أمجنونةٌ أنتِ ! هل تعتقدين بأن هؤلاء المجرمين سيرحمونك و يسمحوا لك بالمرور أمامهم ؟! .. فكري يا سمر فكري!"

اضطربت مشاعري ! وتجمدت قدماي ! و تشتت ذهني !

و أخذت أرقبهم من خلف الحاوية منتظرةً معجزةً لتنقذني !

و فجأة ! حطت قبضة يد بقوةٍ على كتفي !

فشهقت من الخوف ! و التفت خلفي ..

فإذا برجلٍ طويل القامة ، أصلع الرأس ، بشوش الوجه !

خاطبني بنبرة هادئة : " اششش .. ستكونين بخير .. لستُ من الغزاة .. أنا طبيب .. اتبعيني "

فحمل عني الحقيبة و تبعته لا شعورياً !

لم أفرح برؤية أحد قط مثلما فرحت في تلك اللحظة !

سلك الرجل الأصلع طريقا مختصرا نحو الملجأ و في أثناء سيرنا أخذ يحدثني ليخفف من روعي !

" اسمي عمر ! و أنا طبيب عام ، ألم تأتي لعيادتي يوماً ؟ "

" لا " قلتها و أنا مهمومة .

لاحظ عمر همي ثم أردف قائلا و هو يضحك : " هل رأيتِ صلعتي ؟ لقد اختفى شعري بسبب دراسة الطب ! "

فابتسمت وقلت : " أشكرك سيد عمر على لطفك و مساعدتك لي "

فقال عمر و هو يشير للأمام : " لا تشكريني هذا واجبي و ها قد وصلنا "

و ما إن رأيت الملجأ حتى ركضت شوقا و فرحاً !

و لكن الملجأ كان خاليا .. و لم يكن هناك أثر لجدتي !!!

أخذت أبحث كالمجنونة و أهتف بأعلى صوتي : " جدتي .. جدتي !"

و بعدما أيقنت بأنها اختفت ، غمر الظلام روحي ، وارتعشت أوصالي ، وانتفض قلبي ، و انهمرت عيناي بالدموع ، و لم تستطع قدماي حملي فسقطت على الأرض ، و بدأت بالنحيب كالطفل الذي ضل طريقه ، و لا يعرف سبيل العودة !

فجاء عمر و أخذ يربت على كتفي و يهدئني :
" آنستي لا تقلقي ، ستكون جدتك بخير أنا واثق ، لا بد أنهم انتقلوا لمكان آخر قريب من هنا ، استجمعي قواكِ و لنذهب للبحث عنهم "

ثم ساعدني على النهوض ، إلا أنني لم أستطع التوقف عن البكاء، فقد انتابني خوف شديد من أن جدتي قد أصابها مكروه !

و لمّا رأى الطبيب مني ذلك ، أمسك بذراعي و هزني بقوة ، و قال و عيناه تحدقان بعيني :
" يا آنسة إن جدتك في أمس الحاجة لكِ الآن فلا تخذليها ! لا وقت للضعف ! كوني قوية هيا "

كان وقع كلماته شديدا علي ، وأدركت أنه على حق فمسحت دموعي ، ولممت شتات نفسي ، ثم انطلقنا بحثاً عن جدتي !

حياتي أنا    #مسابقة قلم ينبضحيث تعيش القصص. اكتشف الآن