٢

25 1 0
                                    

سارت الأمور بشكل سريع مرة أخرى، وكنت كالأخرق بحضن لحضاتها، أسمع.. أهز رأسي بالإيجاب.. أمضي على عدة وثائق لم أقرأ محتواها.. ثم أبقى خاوي الأفكار عند نهاية الأمر.

"مبارك لك.. صرت تملك عائلة الآن" قالها كارلو مبتهجا لا أعلم هل يخاطبني أم يخاطب الطفل الذي يجلس في الطرف الآخر لطاولة المطبخ. ترَكَته تلك السيدة هنا وغادرت سعيدة بعدما تخلصت من الثقل الذي كانت تحمله على كاهلها.

ما كان يجب أن أفتح الباب كما ماكان يجب أن أجيب على ذاك الاتصال منذ أسبوع. لو فقط تجاهلت أو إدعيت أني لست موجودا كما أبرع في فعله، لماذا مَزَجتُنِي مع تيار العالم .. لما؟

تنهدت مستسلما ثم نظرت للطفل بشكل سريع قبل أن أنهض وأغادر إلى وسادتي ألقي عليها رأسي المثقل بالفراغ، لا أملك غيرها أسند عليه همومي للأسف.

ما إن تحركت من مقعدي سحبني كارلو فأعاد إجلاسي حيث كنت وقال موبخا:" إلى أين بهذه السرعة ألن تلقي التحية" وأومأ برأسه ناحية الطفل الذي لم تبدو عليه علامات الخوف من الغرباء 'نحن'، تقبل وضعه بشكل سلس رغم صغر سنه عكسي، أغبطه فلا بد أنه يفكر بأنه سيعيش مغامرة ما كما يفعل الأبطال في الرسوم المتحركة. أنا نضجت لأبقى أصدِّق صدق أن المغامرة شيء ممتع.

لما نكون صغارا لن نكون على علم بنتائج الفوضى.. فقط نستمتع وكأن الغد غير موجود وإن تواجد فسيكون ربيعا مع مغامرة جديدة. أنا تخطيت هذه المرحلة .. للأسف.

اعتدلت في جلوسي وعقدت ذراعي، أُلبي طلب كارلو حتى لا أُسحب من شعري للمرة الثانية لهذا اليوم فالسحبة السابقة ما تزال تؤلم بعض الشيء.

"ما اسمك؟" سألت بعفوية و وجه خالي من التعابير الودية. لم يخطر في ذهني غير هذا ولم أشعر بالرغبة بتكوين علاقة جيدة معه من الأصل وقد شاركني الشعور حيث أجابني بنبرة مشبعة بالجفاء "اسم يكرهه والدي بامتياز" ثم صمت وشاركته اللحظات الساكتة لولا تدخل كارلو بسؤاله: "وما هو؟" .. "نو-غو" نطق اسمه متأففا وشبك أصابعه على سطح الطاولة.

لحظتئذ تغيرت حرارة جسدي من الخط الاستوائي إلى القطب الشمالي نزولا للصحراء ثم عودة لخط الاستواء. تكهرب جلدي و زامنه نبضتين عنيفتين امتدتا إلى حلقي. وكأن الشيطان الذي يتجسد لي في المرآة خرج ليقابلني بطريقة ثلاثية الأبعاد.

"جميل، أنا كارلو.. وهذا غو-نو" تكلم كارلو لأني تصنمت دون حراك، لم أجد ما أقوله فأنا لم أتوقع يوما أن أرى نسختي تقابلني .. حتى في أحلامي لا أرى نفسي.

أدرت رأسي لليمين وناوبت نظراتي بين كارلو والطفل 'نو-غو' وقلت: "أظننا ألقينا التحية يمكنني الذهاب أليس كذلك؟" نهضت من الكرسي مغادرا مع نهاية التساؤل، بشدة أردت الخروج من هذه الجدران، أشعر بأني في حلم وقد صار الوضع غير مريح لذا أريد أن أستيقظ. سارعت إلى الغرفة لأختبئ تحت البطانية كفأر مرتجف. ما بيدي حيلة غير هذه الحركة لأشعر بالراحة والأمان. أغمضت عيني ولم أنتظر طويلا إلى أن أتى النوم وأخذني بعيدا من هنا.

          

"استيقظ، علي الذهاب إلى العمل الآن ولا يمكن ترك الطفل لوحده"، أزعجني كارلو مجددا ولم أستطع التذمر، سايرته في رغباته كالنهوض من السرير ومرافقته إلى الباب بينما يوجه لي الكثير من التعليمات حول ما يجب فعله وما لا يجب فعله.

أشياء متعلقة حول الطفل الذي لم أستوعب أمره إلا بعد أن وصلت للدرج فعلمت أنه الواقع فعلا ثم وقف لبعض الدقائق ما إن وصلنا للعتبة يعيد وصاياه ويكرر ما قاله لي من غرفتي إلى هنا بينما أنا أتحامل الوضع أنتظر متى أغلق الباب وأعود للنوم، تبا لكل ما قاله فبالكاد فهمت.

لما غادر أخيرا مررت بالمطبخ من أجل بعض المياه وقد كان نو-غو هناك يحصل على فطور الصباح خاصته، لم أعره انتباه وكأنه غير موجود من المقام الأول. عدت لغرفتي قبل أن يغادر النعاس جفوني بالكامل، في بعض الأحيان أنزعج من حقيقة أني مستيقظ لكن هذه المرة تفوز فأنا فعلا أكره حقيقة أني صاحٍ.

هذه المرة كانت رائحة مزعجة هي سبب استيقاظي، كارلو غيَّر أسلوبه على ما يبدو، ملَّ من القدوم إليّ ورؤيتي على نفس الحال كل مرة. استيقظت بالكامل .. عقلي لم يتمكن من ألا يبقى مستيقظا فالرائحة لم تختفي بل كانت تزيد سوءًا مما دفعني للخروج من بطانيتي أسحب نفسي للأسفل أعلن لكارلو أنه فاز وها قد استيقظت دون شجار ولكن المفاجأة أنه لم يكن كارلو بل ذاك القزم ذو قدم ونصف القدم طولا، لا أصدقه حقا.

ركضت إلى الفرن أغلق أنبوب الغاز قبل أن ينفجر البيت برمته وأخذت المقلاة من عليه ورميتها داخل المجلى فاتحا عليها صنبور الماء، فقط لما تأكدت أني لا يجب أن أفعل شيء آخر لأحمي البيت من الخطر ذهبت لأصُب اهتمامي على مصدره.

بحثت عنه بين أرجاء البيت فلم يكن ولا في أي ركن وهذا زاد غضبي سوءًا، لا أظنه الوقت المناسب ليلعب معي الغميضة لأني إن أمسكت به سأجعله يختبئ في القبو مع الوحوش لأيام فأعلمه الغميضة كما يجب، كما تعلمتها.. من وغد أعرفه.

عندما كنت أصعد إلى الأعلى مجددا أبحث بين الغرف انتبهت لصوت صدر من الحديقة الخلفية فتراجعت إلى هناك، كان الباب المؤدي لها مشقوقا فأكملت فتحه وإذا بي أجد صاحب النصف متر طولا متسلقا على بعض الخردة يحاول الوصول إلى حبة ليمون في الشجرة.

تقدمت نحوه وأمسكته في اللحظة الحاسمة قبل أن يقع، لم يكن إمساكي له حركة بطولية لأني حملته من قميصه من الخلف ورفعته لمستوى نظري، ثم صرخت: "هل أنت جاد؟ أتريد قتلنا أم ماذا؟ لماذا تدخل حيزا لست أهبا له؟ ألم يعلموك أنه غير مسموح لشخص مثلك أن يعبث بالغاز والنار أم ماذا؟" أنهيت كلامي بزفيرٍ غاضب وألقيته بعيدا كأنه حقيبتي الدراسية التي كنت دوما أفرغ فيها غضبي.

حصل على بعض الخدوش في ركبتيه ومرفقه الأيمن ولم أهتم .. وكأن ما أمر به من أزمة مع نفسي لا يكفي حتى أهتم بهذه الأمور الآن.

My old reflection.Where stories live. Discover now