الفصل السادس

356 31 2
                                    


الفصل السادس

حينما نظلم بعضنا بعضاً يأتي من يظلمنا، وحاشا لله أن نعدل فيما بيننا ثم يأتي من يأخذ أموالنا... محمد راتب النابلسي.

(مدينة الجبال)

(المستشفى)

تسابقت خطواته نحو المجهول، أفكاره في تلاحم مع الهموم، لا يدري بأي قلب يُقبل على رجل أنجبه فكُتب له عليه حقوقا وواجبات إلى يوم يبعثون. كل ذرة من عقله يحتم عليه الإدبار، الجفاء، والنكران، وفي المقابل كل منبع للعاطفة فيه يصرخ طالبا الرحمة، التفهم، الحنو، والإشفاق. فإن هجرته جل معاني الروابط، بقيت واحدة لا تنفصم؛ صلة رحم تعلقه بذاك الرجل القابع في المستشفى عليلا. وعى من عاصفة أحشائه على طول أخيه الفارع، يجوب الرواق بخطوات لا تحمل معنى سوى شروده في عاصفته هو الآخر أم تراها عاصفة واحدة تضم كل همومهم بشتى اختلافاتها. (يونس!) ذاك الاسم الذي يثقل على لسانه منذ تعرفه إلى أخيه أول مرة ولكنه تعوّد عليه، متجاهلا تلك الغصة التي تعبر حلقه في كل مرة ينطق به. توقفت خطواته ثم ترددت فأدرك إبراهيم أن الذي دخل السجن شابا وخرج منه رجلا تغيرت نظرته. الخزي فيها تحول لشيء آخر، ارتباك! ربما، تشكك ظاهر! دهشة كُلية! وقد يكون كل ذلك معاً لكن اليقين أن النظرة في مقلتيه تغيرت. بسط إبراهيم يده إلى أخيه يخاطبه بهدوء (كيف حالك؟) نظر إلى كفه بقلق ثم عاد إلى مقلتيه وكأنه مدهوش قبل أن يبسط إليه يده أخيرا، مستسلما يضعها داخل راحة الدافئة... دفئا وجد مسلكه بسلاسة من ملمسه الحاني إلى أوردته لينتهي في صميم قلبه مباشرة، فلم يستعجل سحبها وأخوه يضع عليها كفه الأخرى متشبثا بها كما تشبثت نظراته الحانية بخاصة الآخر المشتتة. بلع يونس ريقه غير قادر على الحديث فما صفع إدراكه أمر جلل، هذا الرجل أمامه أخوه الذي لم يتخل عنه وهو في السجن، من قدم له العون والإعانة حتى بعد رفضه المستمر. إنه إبراهيم آل عيسى، فخر الجبل الذي يقفان عليه والجبال حولها، أخوه هو ولن يقبل بغير ذلك، بل يرفض غير ذلك. فغر فمه مدهوشا من احساسه الجارف تجاه من فر منه بكل قوته، فتساءل بصدمة ممن كان يهرب؟! وأتته الردود تباعا؛ يهرب من حضنه الأخوي الدافئ، من احتوائه اللامشروط، ومن تفهمه وتقبله لوضعٍ لطالما أشعره بالخزي والعار. بكل بساطة، كان يهرب من أخوة صادقة، رابط دم قوي ذو أصل عريق. اتسعت مقلتاه ودب في قلبه الرعب، وهو يذكر رابط الدم الذي يكتشف مدى فخره لانتمائه له، بل مدى بهجته التي على ما يبدو كانت سرا خفيا هناك في أعمق نقطة في أحشائه، لا لسبب سوى أن هذا الرجل يكون أخاه الأكبر (أخي!) نطق بأحرف يكتشف حق معانيها لأول مرة، متذوقا حلاوة شهدها بين شفتيه، فقطب إبراهيم جبينه يرد عليه بحيرة طغت عليها بسمته هادئة (أجل أخي، كيف حالك؟) شهق بخفة يسلك حنجرته ليقول له بتوتر (بخير على ما أظن.) ازدادت حيرة إبراهيم بينما يسأله (ماذا تقصد؟) سحب يده بتمهل ليمسح وجهه ويستنشق عبير الحنو يكتشف كنهه ثم رد عليه بتردد (حالته مزرية، وما قاله.) بتر كلماته غير متأكد من أمر إبلاغه بما نطق به والده بوضوح مقيت، فاستفسر منه إبراهيم بفضول (لماذا زرته يا يونس؟) بادله نظراته المرتابة بأخرى مرتبكة ومشتتة، وهو يجيبه (كنت أبحث عن الحقيقة وكان يجب أن أعود إلى أصلي، وهو الأصل.) ضم إبراهيم شفتيه بضيق، يستوضح منه بصبر موشك على النفاد (يونس كن واضحا، ركز وفسر لي السبب الذي أخذك لزيارة من اتفقنا على أنك ستنساه؟ لقد رفضت العودة إلينا نحن عائلتك، فلماذا عدت إليه هو؟) لاذ يونس بالصمت حياءً ظنه الآخر خجلا، وشتان ما بين الاثنين، حين يكون هو مستحيا من كرم أخيه بينما الأخير يظنه خجلا من وضعه ككل (بالله عليك يونس، ألم يئن الأوان لترك الماضي يمضي لحاله؟ العائلة تنتظرك ليكتمل أفرادها، وتغريد ترفض الزواج ويصيبها الارتباك بذنب تحمله لنفسها بسببك، فلماذا لا تندس بيننا لتكتمل سعادتنا بك، وبتغريد؟) خاطبه إبراهيم بنبرة لطيفة، ومستجديه فقابلته مقلتا أخيه بدموع حبيسة لمعت بها الظلمة داخلهما. لم يتحمل كم المشاعر المفاجئة بشدة سيولها، فتدحرجت واحدة نجحت بالفرار من قضبان الحديد، أزالها بسرعة خاطفة واستدار عنه وعقله يتحد مع قلبه صارخا؛ أخوه يحبه بصدق، يشتاق لجمع عائلة يعلم يقينا أنها مكتملة حتى من دونه هو، من دون والدهم الظالم، ومن دون تغريد، بل من دون أحد آخر سوى إبراهيم..... إبراهيم آل عيسى لحاله عائلة عنوانها النخوة والأصالة... لحاله منبع للحنان والاحتواء... لحاله نهر متدفق لرجولةً حسبها اندثرت وانتهت. أداره إبراهيم الذي بلغ به القلق مداه، فرفع إليه مقلتيه المرتبكتين يفكر بأن رباط الأخوة بينهما وإن بُتِرت أواصره إلا في السنوات الأخيرة، إلا أنه ترك في قلبه الأثر العميق، فماذا لو كان والدا له؟! ماذا لو منحه القدر نعمة النشوء بين يدي رجل مثله؟! إبراهيم هكذا ليس لكونه يحمل دماء ذاك الرجل الراقد بين الحياة والموت، وليس لكونه منتميا لسلالة آل عيسى، بل هو الفخر للقب آل عيسى وحتى فخرا للجبال الشامخة.... فخرا لهما أن رجلا ندُر وجوده في زمن الذكور، رجلا يحمل من الشهامة والأخلاق الكثير ينتمي إليهما سواء بالدم أو الأصل. (يونس ما بك؟ أخبرني!) جفله سؤاله القلق بينما يهز كتفيه، محاولا لفت انتباهه إليه، فتفوه بحديث أقرب للهدر (لا يهمني، لا يهم من تكون ومن أنت!؟ صدقني لا يهم، أنت أخي أنا... أخي.) هزه إبراهيم مجددًا وقد تحول قلقه لخوف حقيقي من حالته الغريبة، يهتف بحزم (يونس اهدأ! ما بك؟) ارتفعت وتيرة أنفاسه وهو يكمل هدره (أنا آسف، سامحني أخي، كنت أريد أن أعرف الحقيقة، سامحني، أرجوك سامحني.) ضم إبراهيم شفتيه بيأس ثم تلفت حوله يبحث عن شيء ما قبل أن يسحبه إلى باب، دفعه وتفقد خلو الغرفة قبل أن يُدخِله إليها ثم أغلق الباب عليهما. اقترب منه وربت على لحيته النامية يخاطبه بلطف (انتبه يونس، أنظر إلي!) شهق يونس بعمق وهو يرمقه بتركيز، فاستدرك (ما الذي حدث بينك وبينه لتصبح بمثل هذه الحالة؟) حرك رأسه في كل اتجاه، رافعا يده يمشط بها رأسه الحليق، فزفر ابراهيم بنفاد صبر يهتف به (قل ما عندك يونس!) تجمدت أطرافه بالعاً غصته بينما يحدق به بصدمة تجلت نغمتها في نبرة صوته (ك... كنت في زيارة له، ك ...كي أسأله عن كلمات الدرويش، وإشراق.) عبس إبراهيم مضيقا مقلتيه بحيرة وعدم فهم بينما هو يكمل (عاتبني كعادته، وكانت حالته مزرية، أصبح عجوزا مريضاً وهِناً، اتهمني بالخيانة فأجبته بأنني فعلت ذلك لكي أنقذه من ذنب قتل ابنه، بكره فقال.. قال...) فغر شفتيه كما اتسعت مقلتاه ينظر إليه بتردد، فحثه إبراهيم بلهفة أخفاها فطغت عليها الحيرة (ماذا قال لك؟) فتح فمه مرات عدة وأقفله قبل أن يرمي في وجهه الحديث مرة واحدة (قال بأنك لست ابنه.) تغضنت ملامح إبراهيم بهم قديم تعالت أجراسه لتصم أذنيه، يرد عليه بوجوم (أجل، وماذا سيقول؟ فنحن في نظره لسنا أبناءه إن لم نطعه حتى في جوره.) أومأ له يونس مستنكرا حين لمح عدم فهمه، يعبر بانفعال (أنت لا تفهم، لقد قال لي بالحرف، "ابن تلك الخائنة لم يكن يوما ابني") فجأة خلت ملامح إبراهيم من كل تعبير، تنفسه منحسر ونظراته جامدة، ذراعاه وقعتا إلى جانبيه، فأمسك يونس بذراعيه بسرعة، يستطرد بوجل (سامحني أرجوك، لهذا أنا مصدوم، كلامه لا يصدق، إنه...) رفع ابراهيم كفه يسكته وسأله بنفس الملامح الجامدة (هل أنت متأكد مما تقوله؟) هز رأسه مرات عدة، فبلل إبراهيم شفتيه مفكرا، وغارقا في قعر السراب (إبراهيم، هل أنت بخير.) نظر إليه ثم قال له بما يشبه بسمة شاحبة باردة (أجل، على ما أظن.)

الستر من الحق..3..سلسلة نساء صالحات .. منى لطيفي نصر الدينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن