إيليانا
خرج راكضا نحو والدته المستندة على باب سيارتها، والتي كانت تبكي بحرقة. فتردد صوته العالي في الحي الهادئ، يسألها عدة مرات عن السبب.
وقبل أن أصل إليهما، توقفت سيارة أمي أمامي، وخرجت هي الأخرى مستعجلة لتتجه نحو صديقتها.
" كاتلين، هل أنت بخير، لماذا.."
لم تتمكن من إكمال كلامها بسبب ألكاسندر الذي التفت إليها غاضبا ووجه نحوها إصبع الاتهام.
" ما الذي فعلته لوالدتي؟ ألم أطلب منك الابتعاد عنها. صدقيني إن.."
وقفت بينهما حين كاد يهددها، ودفعته بعيدا عن أمي.
" لماذا تلومها وأنت لا تعرف حتى ما حصل؟ "
بدا غاضبا بشدة، ولمحته يضم قبضتيه بقوة كما لو أنه يحاول منع نفسه عن فعل أو قول شيء قد يندم عليه. لكنني لم أتراجع بل رفعت رأسي عاليا متظاهرة بالشجاعة... حتى أمسك ذراعي وضغط عليه..
" لا يهمني ما حصل، كل ما يهمني هو دموع والدتي، وسأحرص على تدمير أي شخص قد يتسبب لها بالأذى، حتى ولو كانت والدتك."
يمكنه إيذائي بسهولة لحماية الأشخاص المهمين بالنسبة له... هذا ما يحاول قوله لي.
كيف سمحت لنفسي بنسيان ذلك؟
بأنه يكرهني..
كيف لي أن أكون ساذجة وأنخدع بتصرف لطيف واحد منه. كما لو أنه قد محى كل الكلمات السيئة التي قالها لي.
كم أنني غبية.
ارتجفت شفتي السفلى، وتجمعت الدموع في عيني. لكنني تماسكت وتمسكت بقراري في مواجهته مهما حاول أن يفعل أو يقول. فلن أسمح له بالاعتقاد بأن له تأثيرا علي.
" أفلتها حالا."
أبعدت والدتي يده التي لربما قد بقيت آثارها عالقة على جلدي. وأبعدتني للخلف.
" بدلا من توجيه أصابع الاتهام للآخرين، لما لا تحاول تهدئتها أولا ومساعدتها على الدخول للمنزل. "
أمرته والدتي بحدة، فبدا وكأنه قد أفاق من الحالة التي كان فيها، فنظر إليّ سريعا ثم هب لمساعدتها. ورغم أنها لم تفلتني وأصرت على إبقائي خلفها، لكنها لم تتخلى عن صديقتها أيضا بل تبعتهم للداخل.
جلست كاتلين على الأريكة وركض ابنها لإحضار كوب من الماء، قبل أن تنزل ماري للأسفل بسبب الصخب الذي سببناه.
" أمي؟ "
سارعت للجلوس بجانبها وعيناها ممتلئتان بالدموع، إلا أنها لم تنطق بحرف واحد بل احتضنتها وأخفت وجهها برقبتها.
" رجاءً، أخبريني ما حصل يا أمي."
حاول ألكساندر حثها على التحدث لكنها رفضت وأبقت عينيها المغرورقتين على الحائط خلفه، فتنهد بعمق واضطر في النهاية للجوء إلى أمي.
" هل بإمكانك إخباري... رجاءً؟ "
كانت نبرته هادئة وخافتة، لا تعكس أبدا مظهره المضطرب والقلق. ولأن أمي طيبة القلب، فقد ربتت على كتفه وأبعدتنا عن كاتلين وماري التي لازالت تتشبث بها.
" قبل أسبوع، قامت كاتلين بحجز موعد في مطعم راقي أخبرتني بأنه قد كان مكانها المفضل في السابق. واليوم ذهبت أنا وهي وبضعة أصدقاء إلى هناك. في البداية كانت تحظى بوقت ممتع وتبتسم طوال الوقت، لكن فجأة... تغيرت ملامح وجهها وغادرت المكان مسرعة قبل أن أتمكن من اللحاق بها."
بدا وكأنه يعرف المكان الذي تحدثت عنه أمي، فقد بدا مصدوما وسألها مجددا.
" هل رأت شيئا ما.... أو ربما شخصا؟"
" نعم، رأت رجلا ومعه امرأة يمران بالقرب من طاولتنا، وبدا وكأنهما يعرفان بعضهما، فهو الآخر قد توقف كذلك... حتى أنه بدا وكأنه يحاول الاقتراب منها."
" تبا."
مرر يده على رأسه، فتبعثر شعره، وانفلتت تنهيدة متعبة من شفاهه. فبدا وكأنه يحمل هموم العالم على كاهله... وشعرت أنا، بأنني أرغب في احتضانه.
أي نوع من الألم الذي تحمله بداخلك، حتى تفقد الثقة في كل العالم؟
أي ثقل هذا الذي تجره معك كل يوم؟
لماذا تبدو وكأنك تشعر بالوحدة؟
رغم أنني أردت الابتعاد عنه قدر الإمكان وعدم رؤيته مجددا. لكن جزءً مني، جزءً ضئيلا يعيش في الخلفية، يخبرني بأنه يخفي الكثير تحت الواجهة التي تجعله يبدو كأكثر مخلوق شرا على سطح هذا الكوكب.
ألا يقال بأن كل ممنوع، مرغوب؟
هل هذا هو سبب انجذابي إليه يا ترى؟
لحظة... هل أنا حقا منجذبة إليه؟
تبا لأفكاري التي تجعلني أعترف بالأمور التي أحاول تجاهلها دائما.
بقيت أمي إلى جانب كاتلين بعد أن ساعدتها على الذهاب إلى غرفتها، وبقيت أنا في الأسفل إلى جانب التوأمين.
" لقد عاد."
أعلن فجأة لينهي الصمت السائد بيننا. فأغلقت ماري فمها بكفها بعد أن أفلتت شهقة تنم عن دهشتها، وأسند رأسه على الأريكة.
كان قريبا مني، تلامس ساقه خاصتي. وحتى الحرارة التي انبعثت منه، أدفأت جسدي البارد من شدة التوتر.
حاولت التركيز في كلامه، حتى أتناسى دقات قلبي التي تصاعدت شيئا فشيئا، حتى كدت أخشى أن يسمعها غيري.
" هل كنت تعلم؟"
" لا."
" لكنه يخبرك دائما حين يعود."
" ليس هذه المرة."
لم تتغير نبرة صوته المزيفة، التي تبدو لسامعها كما لو أنه أكثر شخص هدوءً في هذا العالم. وتمنيت حينها لو أقدر على معرفة ما يفكر فيه.
مما هو قلق؟ أو ربما... خائف؟
كدت أنجرف بعيدا مع تيار أفكاري، لكنني استيقظت على الواقع حين غادرت ماري وتركتنا لوحدنا... أنا وهو.
ابتلعت ريقي وأردت أن أبتعد عنه.. بعيدا جدا، حيث لا يراني، ولا أشعر بدفئه الذي يكاد يجعلني أرغب في الاقتراب منه أكثر.
" أنا آسف... ما فعلته الآن.. لم أقدر على التحكم في نفسي، فكل ما رأيته هو صورة من الماضي لأمي المحطمة، ولم أرغب بالتعايش مع ذلك مجددا، لذلك... دون أن أعي.. قلت ذلك الكلام وأذيتك.. أنا أعتذر يا إيليانا، أنا آسف."
لم يقل كلانا أي شيء بعدها، ولبضع دقائق جلسنا في صمت شديد، لكنه لم يكن خانقا أو مزعجا. حتى كسره هو، دون أن يبعد عينيه عن السقف الذي لم يتوقف عن النظر إليه.
" إنه والدي."
همس كما لو أنه يخبرني سرا لا يمكن لغيري سماعه، فعجزت أن أجد ردا مناسبا لاعترافه المفاجئ.
لذلك صمت.. وسمحت له بالتحدث، لكنني ركزت نظري عليه، وكذلك فعل هو.
" قبل ثلاث سنوات، كنا نعيش في حي بعيد عن هذا، نحن وأبي. وكانت علاقة والدي... مميزة. فكلما رأيتهما فكرت بأن الحب الذي يتشاركانه يستحيل انكساره. ولم أدري حينها بأنه سيثبت لي العكس.
والدي الذي اعتبرته قدوتي طوال حياتي، كان السبب في تحطيم أمي.. هو والمرأة التي انتقلت لحينا وتقربت منها راغبة في مصادقتها..
ولأن أمي لطالما كانت ولازالت طيبة وتصدق الجميع بسهولة، فقد رحبت بها وفتحت لها أبواب منزلنا، دون أن تدري بأنها تستغلها كوسيلة لتنفيذ خطتها.
ولمدة أشهر، كنت أراها صباحا ومساء تتجول في أروقة منزلي، ثم تحول التجول إلى مبيت، وتحول الأخير إلى الخروج معنا في كل موعد عائلي.
رفضت والدتي الاستماع إليّ حين حذرتها، مثلما لازالت تفعل الآن.
وشيئا فشيئا، بدأ تغير طفيف يطرأ على والدي، فقد صار يمازحها أكثر مما يفعل مع أمي، صارا يتحدثان كثيرا، وانتهى بتقبيلها، فكنت أنا وأمي الشاهد على ذلك.
ورغم أنه قد أبعدها عنه وغادر.. لكن أمي لم تتمكن من مسامحته حتى بعد هذه المدة.
منذ ذلك اليوم، تحطمت علاقتهما، وتحطمت عائلتنا.
منذ ذلك اليوم، لم تجف دموع والدتي رغم محاولاتها في إخفاء الأمر عنا.
ولفترة طويلة، حاولت أن أكون الشخص الناضج، حاولت أن أرمم ما أُفسِدَ... لكنني فشلت. حاولت أن أحمي والدتي وأختي، لكنني....
أدركت بأنني أعجز عن حماية من أهتم لأمرهم."
لم أبعد عيني عنه، ولا هو فعل ذلك.
أنفاسه هادئة، لكن لا شيء في ملامحه يشير إلى ذلك.
فكاه منغلقان بقوة كما لو أنهما تصدان صرخات غاضبة صادرة من أعماقه. مقطب الحاجبين كأنه يخشى التخلي عن حذره... وعيناه، عيناه كثقب أسود يبتلع كل ما أمامه.
ماذا بإمكان شخص مثلي فعله، أنا التي تخشى مواجهة نفسها وكل شيء مخيف حولها؟
لم أجد الكلمات المناسبة لمواساته، فاحتضنته.
تشبثت به بقوة، كما لو أنه آخر نفس في عالم يكاد ينفذ فيه الهواء.
واحتضنني هو كما لو أنه سيهوي إلى قاع الجحيم إذا ما أفلتني. وكأنني ملاذه.