(١١) سعادةٌ

2 0 0
                                    

﷽..

رائحةُ المعقّمات والأدوات الطبيّة تعبثُ بأنفي..

المُحيط الأبيضُ من جدرانٍ وأسقفٍ وأراضٍ وثيابٍ وفُرُشٍ يُرسل رعشةً في عموديَ الفقريِّ..

أصواتُ الأسرّة ذات العجلات وأقنعةِ التنفس الطنّانةِ تصمُّ أذنيَّ..

أخطو خطوةً مملوءةً بالأمل لأُتبِعَها بخطوةٍ مفعمةٍ بالخوف..

عروقي مثخنةٌ بالحماسة، لكن بالقلقِ أيضًا..

وجود أبي إلى جواري يمنحني نفحةَ اطمئنانٍ، إلا أنّني أخشى أن يزيد اضطرابي بسببه لاحقًا..

أجلسُ الآن معه في حجرةِ الانتظار بينما أمسِكُ بنتائج التحاليل الطّبية التي تعيّن عليّ إجراؤها، وكذلك بالأوراق وصور الأشعّة القديمةِ..

لم أدرِ كم من وقتٍ مضى حتى حانَ دورنا، حاولتُ الإمساك بيدِ والدي إلا أنّها كانت مدفونةً في جيبِ سترته، فاكتفيتُ بالسّير إلى جواره ومع كلّ دَفعةٍ إلى الأمام أركلُ الكثير من المشاعر المتضاربةِ يمنةً ويسرةً..

دخلتُ معه حجرةً من حجرات ذاك المشفى، كان هنالك طبيبٌ تجلّله هالةٌ من الوقار والهيبةِ بطريقةٍ ما، كان قد وخَطَهُ الشَّيبُ وتمكّنت من جبينِه بعضُ التّجاعيد، وابتسامتُه الهادئةُ كانت باعثًا كبيرًا على تهدئتي..

أشار إلى فراشٍ بُنّيِّ اللون كذاك المتواجد في أغلب العيادات، اعتليتُه وتركتُه يقوم بالفحص السّريريّ الذي شعرتُ بأنّني كنتُ مغيَّبًا تمامًا خلاله، ثمّ عاد إلى مكانه وأخذ يُطالع الأوراقَ التي جلبتُها معي..

طال صمتُه وهذا ما جعلني أنكمشُ على نفسي في خوفٍ، هل سيخبرني أنّني سأموت غدًا وأن لا علاج يمكنه مساعدتي؟!

أخرِجتُ من أفكاريَ القلقةِ تلكَ على صوته الهادئ الذي حمل كلماته بينما أنامله تتتبّعانِ الأوراق البيضاء ببطءٍ:

-حالتُك متقدّمةٌ جدًا كما هو ظاهرٌ..

صمتَ بعدها لهنيهاتٍ، قبل أن يُغرقني معه في دوّامةٍ سرمديّة أبديّةٍ لا نهائيّة من الأسئلة.

-هل تسعل كثيرًا؟

"أجل."

-بحّةُ صوتكَ دليلٌ على سوء الوضع، هل هذا السّعال مصحوبٌ بدِماء؟

"أحيانًا."

-هل يؤلمك صدرك؟ ما حدّة ذلك؟

"أجل، كثيرًا وبشدّة."

-هل تواجه صعوبةً في التنفس؟

"حقًا."

-هل يصدر عنكَ أزيزٌ عندما تكون متعبًا؟

"لا أظنّ."

-ماذا عن آلامٍ في العظام أو الرّأس؟

"العظام لا، الرّأس أحيانًا."

-هل تشعر بالدّوار كثيرًا؟

"ليس كثيرًا حقًا.."

-هل سبق وأن أغميَ عليك بسبب الإرهاق أو ضيق التنفس؟

"أجل."

-هل خسرتَ وزنًا مؤخرًا؟

"لا أعلم، لم أتفحص وزني طيلة حياتي."

-لا بأس سنتحقّق منه الآن، سؤالٌ أخير، هل حدثت تغيّراتٌ على شهيتك؟

"لا أدري."

أطلق سراحي من أسئلته تلك أخيرًا، وإلى الآن لا أفهم، لماذا يسألني إن كان يعلم يقينًا ما هو مرضي وفي أيّ حالٍ هو؟ أنا لم أجد مبرّرًا، لكن ما شأني، هو الطبيب في النهاية.

نهض نحوي وتفحص عنقي مجدّدًا، ثمّ كشف عن ساقيَّ بحذرٍ ونظر فيهما، لمحتُ القلق في عينيه وهو يتفحص كدمةً تسبّب لي بها أبي حبيبي، نظر إليّ وعدّل نظارته مغمغمًا بقلقٍ:

-هل هذا التورم ظهر فجأةً؟!

اختلستُ نظرةً إلى أبي الذي يبدو كقطٍّ عابسٍ بدون سيجارته بسبب كوننا في المشفى، ثمّ أشحتُ ناحية الطبيب وأجبتُ بارتباكٍ:
-لا.. إنّها مجرّد كدمةٍ، لقد سقطتُ وآذيتُ نفسي فحسبُ..

أعاد تعديل نظارته مجدّدًا وعلى ما يبدو أنّ إجابتي أراحته، تركتُ ملحوظةً في ذهني للبحث بشأن الأمر..

حين عاد إلى مقعده من جديدٍ عدتُ أنا أخيرًا إلى جوار أبي.. وقبل ذلك جعلني أقف على ميزانٍ وتبيّن أنّ وزني أقلّ من المطلوب بأكثر من ستّة عشر كيلوغرامًا.. مُقلقٌ قليلًا صحيح؟

-حسنًا..

ابتدأ بها الطّبيبُ كلامه، ثمّ التفتَ إلى والدي، المسكينُ، يظنّ أبي يهتمّ، بأيِّ حالٍ تنحنح قبل أن يسترسل قائلًا بعمليّةٍ بحتة:

-الاستئصال الجراحيُّ مستحيلٌ في حالةِ ابنكَ فالورمُ منتشرٌ بشكلٍ سيِّءٍ حقًا، بإمكاني منحُه مزيجًا من العلاج الإشعاعيِّ والجرعات الكيميائية، لكنّ جسده لن يحتمل ذلكَ حسب ما تُدلي به نتائجُ التحاليلِ والفحصُ السريريّ، لذا سنكتفي بالحدّ الأدنى من العلاج الكيميائيّ ونراقبُ الآثار الجانبيّة فيما إذا كانت ضمن المستوى الطبيعي قبل أن نبدأ في تكثيف الجرعة، فنحن هنا نريد مساعدته لا زيادة الطين بلّةً.

التهمتِ ابتسامتي وجهي، بينما أخذ الطّبيب يُجدول موعدًا مع أبي ويكتب له بعض الأدوية التي عليه إحضارها ويُمليه الكثير من النصائح حول كيفيّة جعلي مرتاحًا وكيفية تقليل الألم وما إلى ذلك، وأجزمُ بأنّ أبي سيرمي بها في عُرض الحائط..

حين مُنحتُ ورقةً بموعد أوّل جلسةِ علاجٍ كيميائيٍّ كانت سعادتي كسعادةِ طفلٍ حصل على قطعةٍ من الحلوى، وطيلة الطريق إلى المنزل كنتُ أعيد قراءتها مرارًا وتكرارًا وأحدّق فيها بلا مللٍ، كنتُ هائمًا بها تمامًا..

حين وصلنا إلى المنزل أسرعتُ إلى الدّاخل واستلقيتُ في فراشي وأنا أحدّق في الورقة بسعادةٍ، شممتُها، ورفعتُها أمام وجهي ثمّ سمحتُ لنفسيَ بأن أغفو..

سنًا للغيومحيث تعيش القصص. اكتشف الآن