كرسيّ شفقة

78 12 1
                                    

    فتح باب شقّته وخلفه من بقلبه تبادله نظرات الأسى، وقبل أن يعتذر منها على تأخره انكسرت هي أمامه بالكلام:
- أنا أحبكَ، لكنّك لست الشخص المفضّل عندي بهذه اللحظات بالذات.
- شهرزاد، يا حبيبتي...لقد جئت بأسرع ما يمكنني، وكنت سأصل متأخّرا أكثر لولا جيراننا اللطفاء الّذين أوصلوني.
- سيتوقّف الغيث قريبا، فهذه أمطار القيظ وعادة لا تدوم طويلا، هيّا أسرع، هيّا!
    انحنى أمامها كما ينحني الفارس أمام ملكته، وقبّل رجليها كلّ على حدا كما لو أنّها كانت أمّه الراحلة، قبّل رجلها اليمنى ثمّ ألبسها جوربها الوردي المزخرف بزهرة فوشيا البنفسجيّة، زهرتها المفضّلة بعد ابتسامته الصباحيّة، ثمّ حذاءها الرياضيّ الذّي وضعت عليه تفاصيلها الخاصّة بالألوان المائيّة، وبعدها كرّر نفس الخطوات مع قدمها الشمال أيضا.
     أحكم قبضتيه على مقبضي كرسيّها المتحرّك، وبحذر شديد، بدأ ينزلها على السلالم درجا بدرج بينما هي تحثّه على الإسراع كطفلة تتوق لعبق الأرض المبلّلة كي تبتلّ معها وتعتق.
- هيّا أسرع! (قالت بصوت فارس يرفع سيفه للسماء)
- هل تريدينني أن أسقطك؟! لو كنت فتاة عاقلة تسمع الرأي واخترت شقّة أرضية كما اقترحت عليك لكنت مبلّلة بالفعل الآن. لكن معاذ اللّه تستمعين لرأيي، لا...كان عليك اختيار الشقّة في آخر طابق من العمارة، عنيدة!
- لا يهمّني الخروج بقدر ما يهمّني المنظر. في الخارج، على هذا الكرسيّ، أنا أسفل الجميع، لكن في شقّتنا، فوق، أنا أعلى منهم جميعا!
- وجهة نظر جيّدة!
      ساد عليها الصمت لبرهة، قد يكون هذا عاديّا لأيّ فتاة بالعالم، لكن ليس هي. أدرك أنور أنّ هناك شيئا ما يشغل بالها، فهي لا تصمت حين تكون جنبه أبدا، تحب الحديث معه دوما، صديقها المفضّل وزوجها. حتّى حين تكون متخاصمة معه، تحدّثه بما يشغل بالها، ولهذا لم يلحّ عليها بالسؤال، بل انتظرها حتّى تفتّحت إليه هي.
- إذا، أخبرني...كيف هم الجيران؟
- لطفاء، سألوني عنك وعن سبب انعزالك عن العالم.
- لا أحبّ نظرات النّاس لي وطريقة معاملتهم لي فقط لأنّني مشلولة. ينسون كلّ انجازاتي بالحياة، شهاداتي الجامعيّة وجوائزي الثقافيّة، وكلّ ما يتذكرونه هو ما يرونه أمامهم، كرسي شفقة.
- أنت لا تكرهين طريقة معاملتي لك...
- لأنّني أسمح لك بمعاملتي بتلك الطريقة، فاهتمامك حبّ وليس شفقة، يا أحمق...أكمل، ماذا أيضا؟
- لا أذكر كثيرا، فلم أكن مركّزا معهما بشدّة، لكن هو يعمل كسائق سيّارة أجرة وهي ربّة بيت وخيّاطة، لديهما طفلان حظيا بهما في سنّ متأخر ولا أذكر اسميهما هما أيضا، لكن أعتقد أنّهما اللذان نسمع صراخها كلّ ليلة من الشقة المقابلة.
      ساد عليها الصمت من جديد، وطفلت ابتسامة وجهها كما لو كانت شمسا عند المغيب، فقد كانت تعلم سرّ حبّه للأطفال الّذي كان يحاول أن يخفيه عنها مخافة أن يؤذيها، تماما كما تعرف حقيقة عدم قدرتها عن الإنجاب مهما تظاهرا بعكس ذلك واستمرّا بالمحاولة.
- حبيبي؟
- نعم؟
- ما رأيك لو تتزوّج من جديد؟ (حاولت قولها دون حشرجة، كي تحبس كلّ صرخة غيرة بداخلها)
- هل أنت جديّة بسؤالك أم أنّها إحدى ألاعيبك وخدعك كي تنزعجي منّي فأحاول إرضاءك أنا بعلب حلواك التركيّة المفضّلة، فالطبيب قال لا!
- أنا جدّية يا أنور، رغم أنّني سأكره رؤيتك مع امرأة غيري، حتّى بمخيّلتي، لكنّني جديّة، لم لا تتزوّج؟
- لأنّني متزوّج بالفعل! ما خطبك يا امرأة؟ (سألها ممازحا وهو يعرف قصدها)
- أقصد زوجة حقيقيّة!
- وهل أنت نسج من خيالي؟! لأنّ مهرك كان غاليا جدّا لفتاة لا توجد أصلا!
- يا أنور، يا حبيبي، لا تتظاهر بأنّك لا تعرف ماذا أقصد، زوجة تطبخ لك، تنظّف لك، تنجب لك، تتمشّى معك بدل أن تتعبك...
- أعرف كيف أطبخ يا شهرزاد، أعرف كيف أغسل وكيف أنظّف، ألم أبرهن لك ذلك كلّ يوم؟!
- بامتياز، لكن هي ستنجب لك أولادا يشدّون وزرك حين تكبر، ألا تريد ذلك؟ ألا تريد طفلة صغيرة تحبّك وتتدلّل عليك؟ لا يمكنك أن تبقى عالقا معي إلى الأبد، لا أريدك أن تندم على لقائي...
     توقّف أنور عن دفع كرسيّها حين بلغا مساحة واسعة بين الدرجات تكفي لحملها، ثمّ تخطّاها ليقابلها، فكانت هي هناك على مرأى من بصره، عاجزة عن تفادي نظراته أو إخفاء ترسّبات دموعها، جلس القرفصاء أمامها حتّى بدت بمثل طوله، ثمّ رفع ذقنها بحنيّة سبّابته وابهامه. راقبها للحظات دامت عقدا وهي تلاعب جلبابها توتّرا، وكأنّه لا يحفظ جميع تفاصيلها وتصرّفاتها، وبعدها مسح دموعها وقال بنبرة صوته المتخلّجة:
- عليك أن تفهمي شيئا، اتّفقنا؟ أعلم أنّ الأمر صعب عليك لكن عليك أن تحاولي حشوه داخل جمجمتك الغليظة رغما عن عنادك المتفشّي في دم عائلتك. أوّلا، أنا لا أريد أيّ ولد، أريد ولدا معك أنت، لا أريد أيّ طفلة، أريد طفلة منك، تشبهك، لها عيونك ونظراتك، ربّما قليل من خدودك، فأنا لا أريد للغرباء أن يهضموها بالطريق، أريد طفلة لها صوتك فأنا لا أسأم من سماعه أبدا...وثانيا، وهذه النقطة الأهم، لديّ أنت، وهذا كلّ ما أحتاجه، فأنتِ طفلة، وطفلة مدلّلة أيضا، تنزعجين إن أرغمتك على النوم مبكّرا، وتختبئين تحت الأغطية حين أوقظك فجرا. بالكاد أستطيع جعلك تتوقّفين عن أكل الحلوى أو انهاء خضرواتك دون مساومة؛ تفرّين منّي زحفا حين يحين موعك استحمامك ثمّ أضطر لجرّك خارج الحمّام حين يعجبك دفئه، لا أستطيع أن أفكّر بطفلة أكثر منك! أنت لست إلّا طفلة صغيرة!
       أخذ الأمر منها لحظة قبل أن تبدي ردّة فعل عن كلامه، وفي حين ظنّها ستكافئه بعناق كعادتها، أحاقته بذراعيها وهمست له بصوت حاولت فيه كتم ضحكتها:
     "هذا يجعلك متحرّشا بالأطفال"

زهرة فوشيا البنفسجيّةWhere stories live. Discover now