لم تكن تؤذيني الوحدة حتّى التقيتك، ثمّ فارقتك.

92 13 0
                                    

- إلهي كم أنت مزعجة!
- أنت هو المزعج، أنا أسألك سؤالا وأنت تتفادى اجابته، سألتك لماذا لا تريد الزواج من جديد؟!
- حسن، طيّب، أنت تفوزين، سأجيب، لكن بشرط أن تعديني أن لا تطرحي عليّ الموضوع من جديد، اتّفقنا؟
       أومأت شهرزاد رأسها بالإيجاب، تنتظر ما كان اقتراحا من أصدقائه قبل أن يكون اقتراحها، فلطالما كان يأتمنها بهاتفه، ولطالما كانت تقرأ حواراته مع أقاربه، وكلّ منهم يحاول إقناعه بالزواج من جديد كي يحظى بما منعته هي عنه، ورغم أنّ الأمر كان يؤذيها، إلّا أنّه كان واقعا لابد منها التضحية فيه إن كانت تحبّه حقّا وتضع سعادته قبل سعادتها. كان الأمر بمثابة اختبار لحبّها ولم تكن مستعدة لأن تفشل فيه وإن كان سيقتلها.
    كانت بالفعل تستطيع تذوق طعم حياتها بزوجة أخرى تداعب أصابعه بيديها الدافئتين وليس مقبضي كرسيّها المعدنيّ الباردتين. متروكة في الشقة لوحدها، تراقص العالم من خلف نافذة زجاجيّة تعجز عن الوصول لحوافها بغية تنظيفها، منسيّة كوالد في القبر استبدلته ابنته الوحيدة بشّاب التقته بحديقة المدينة، ينتظرها أن تتذكّره بدعوة كما ستنتظر هي أنور أن يتذكّرها بحلواها المفضّلة وسط كلّ مشاغل أسرته الجديدة ومصاريفهم المتزايدة بينما يغدقونه بحبّ لن تستطيع منافستهم فيه أبدا.
     كانت تستطيع رؤية نفسها تصارع ساعة في الحمام فقط كي تقضي حاجتها لوحدها وتحمّم نفسها، تأكل الحُتامة باردة وتشرب الصّبابة دافئة. توقظ نفسها فجرا دون جرعة من قبلاته الصباحيّة مصحوبة برائحة مسكه على عنقه قبل أن يغادر للصلاة جماعة. كانت تستطيع رؤية نفسها مركونة خلف الباب تنتظر سماع خشخشة مفاتيحه على قفله، ساعات قبل أن تدرك أنّه لن يأتي ذلك اليوم أيضا، أنّ عليها الأكل لوحدها من جديد، تدفع اللقمة تلو الأخرة رغما عنها، لأنّه سينزعج منها إن لم تهتم بصحتها ونظام أكلها. كانت تستطيع سماع الجيران وأولادهم، يمرّون عبر الرواق ويلمزونها بعيون ليست فيها.
    " هنا تعيش تلك السيدة المعاقة "
    " هنا تعيش تلك المجنونة "
    " لنطرق بابها ونهرب "
     كل هذا الوقت وهي تفكّر، كانت تضع قبضتها على فمها كي لا تشهق بدمعها فيدرك كم هي عاجزة دونه، ليس كبرياء من زوجها ولكن محبّة له كي يعقد رأيه دون أن يضحّي أكثر ممّا فعل قبلا. كانت عازمة على أنّه قد حان وقتها للتضحية لأجله، مهما كلّفها الأمر وكيفما انتهى بها الحال، فلا فائدة له منها ولا حاجة لا يستطيع الاستغناء عنها.
      هي لم تكن تؤمن يوما بأنّها ستجد الحبّ، فما بالها بشخص يبادلها نفس الإحساس. لم تكن تؤمن يوما بأنّها سترتدي فستانا ناصع البياض، فما بالها بشخص يرتدي بذلة سوداء يمسك يدها للزواج، أمام كلّ أقاربها الّذين حرموها من فرصة رسم ذلك على صفحات مخيّلتها بأقلام شبابها مخافة أن تؤذي نفسها بأحلام يستحيل للبشر أن يحقّقوها، وكأنّها دون رب يجيب دعوة الداع إذا دعاه، فيقول للشيء كن فيكون. بعقلها البريء الطفولي، كانت قد حظيت بأكثر ممّا قد حلمت به في أيّ وقت مضى، ولم تتوقّع أكثر من أيّ انسان يحبّها وإن كان والدها، كما لم تتوقع أن يعيش قلبها الحلم كلّ يوم من حياتها، فالدنيا لا تفضّل أحدا من البشر مهما كانت ظروفهم، عليها أن ترتطم بأرض الواقع بوقت ما، عليها أن تستيقظ يوما ما، وهذا ما كانت تريد فعله، أن تستيقظ حبّا الآن، بدلا من أن تستيقظ مفجوعة بغيابه عنها فجأة، وكم كانت مستعدّة لأن تساعده في كلّ خطوة من زواجه الجديد، ستسرّح شعر عروسته إن شاء وستقرضها فستانها وستخلي لهما الشقّة إن لم يكن لهما مال كاف للابتعاد عن هالة وحدتها وحزنها. كان مستعدة لتكون هناك لأجله كما كان هو هناك لأجلها خلال كلّ السنوات التّي أمضاها معها.
- لا أريد أن أتزوّج...لأنّني أخاف ألّا أعدل بينكما...
- أنا أعرف ذلك وموافقة عليه، أفكّر به كلّ الوقت ومدركة ما سيترتب عليه ذلك. أنور، أنا مستعدة لذلك. هي ستنجب لك، تطبخ وتنظّف، تمسك يدك وتدفّئها خارجا أيّام الشتاء، أنا طفلة لكنّني لست غبيّة، أدرك أنّها ستستحق اهتماما أكثر منّي ولا أهتم بتاتا إن لم تعدل بي!
    أخرجت تلك الكلمات بنبرة قاسية تدّعي اللامبالاة، لكنّها مهما حاولت لم تستطع أن توقف دموعها، فاكتفت بالنّظر للجهة المخالفة تضم شفتيها الورديتين لبعضهما كي لا تئن بقوة تضعفها. من جديد، مدّ سبّابته لذقنها وأعاد رأسها مكانه لتتحادث عيونهما قليلا، ومهما رغبت بذلك لم تستطع مقاومة النظر إلى عينيه، يستحيل لها ألّا تستغلّ أي فرصة يمنحها لها لتغرق بقهوة مقلتيه البنيّتان، العيون الّتي أدمنتها منذ أن تذوّقت منها أوّل لمحة حين استفردت به ليلة زفافهما. حازمة على أنّ الحبّ يتطلّب التضحية، أمسكة بيده من على خدّها ووضعتها على حجرها تنتظر منه جوابا.
- لم أكن أتكلّم عنك يا عترتي، أخاف أن أهملها هي وأجعلها مجرّد خادمة لي، فأنا أحبّ أن أفاجئك بطبخي، كما أحب أن أحضره لك كلّ ليلة على الفراش لتطعميني منه كأنّي طفلك. أحبّ أن أغسل الأطباق لأناولها لك كي تجفّفيها، وأحبّ أن أجرّك من غرفة لأخرى كأنّي في سباق حتّى تشعرين بالدوار. أحبّ التجوّل بك في الشوارع نلاحق الطيور على الأرض قبل أن تطير طلبا عند رغباتك. أحبّ أن أسبح بك في الدأماء وأنت تحاولين إغراقي رغم أنّك ستغرقين معي لو نجحت. أحب أنّك لا تستطيعين الأكل دون حضوري وتتشوّقين لعودتي إلى البيت لتعانقيني. أحب أن يكون أوّل ما أراه حين أخطو بحيّنا هو وجهك على النافذة يلوّح لي بالفرحة. أحبّ بحثك عن الألغاز لتشاركيني بها، وحفظك للنكت كي تشاركيني ضحكتها وإن كانت تافهة. أحبّ عتابك لي بالدموع ونظرات الأسى والخيبة بدل الصياح والتنابز بالألقاب. أحبّ أنّ حضنك يزيح عنّي ثقل يومي، وقبلتك تشفي جراح قلبي، وأكثر من أيّ شيء، وقبل كلّ شيء، أحبّ فقط أن أستلقي جنبك دون حراك، أراقب عينيّك الحالمتين تسبحان في قصص مخيّلتك الجامحة بينما أعبث بخدودك المتورّمة. أحبّ تدليك قدميك كلّ ليلة كي لا تتقلّص أعصابك، وأحبّ مقالبك الجافّة والمبالغ فيها. أحبّ واقع أنّه عليّ أن أثير صراعا فقط كي أجعلك تبتلعين أدويتك، وصراعا آخر كي أرغمك على شرب أعشابك الطبيعيّة. أحبّ كيف أنّك تعلمين أنّه ليس لديك مكان بالشّقة للاختباء فيه منّي لكنّك تهربين على كلّ حال، وأحبّ أنّك تغطّين عينيك حين أجدك وكأنّني لن أراك إذا لم ترينني. شهرزاد أنا أقدّر رغبتك في التضحية لأجلي، لكنّ نيّتك وحدها تكفي كتضحية بالنّسبة لي. قبولك أن تكوني زوجتي، تضحية كافية لي. صومك معي حين لا نجد ما يكفي كي نأكل، تضحية كافية بالنسبة لي. بكائي على حضنك من ظلم النّاس لي دون أن أشعر بنقصان رجولتي، تضحية كافية بالنسبة لي. احترامك لصمتي حين أنطوي بين جدران عزلتي دون عتاب، تضحية كافية بالنّسبة لي. تفهمك لي حين لا أفهم نفسي، تضحية كافية بالنّسبة لي. أنا أحتاجك أكثر ممّا تحتاجينني، وعليك أن تبدئي في تصديق ذلك، لأنّني لن أذهب إلى أيّ مكان. أنا هنا لأبقى، فلا تسأليني مجدّدا عن هذا. أنت خّلقت لي منذ أن بدأ الخلق ولا أدري كيف كنت أعيش تناقضي قبلك، لا أعرف حتّى كيف وصلت لقلبك وتربّعت على عرش حبّك، لكن كلّ ما أعرفه هو أنّني لا أعرف حياة أخرى دونك. لا أريد أن أتزوّج لأنّني لا أريد صدقا، فأنت كلّ ما أحتاجه وحبّك قد ملأ قلبي بالسعادة حتّى أصحبت تخرج من أطراف فمي على شكل ابتسامة أشاركها للعامّة كلّما تذكّرتكـ بهذا القدر أحبّك ولن أكون يوما مستعدّا للتخلّي عنك، فأنا لست حبيبا تبقيه الفتاة سرّا عن أهلها، أنا زوجك...إن كان خوفك على الأولاد فيمكننا دوما التكفّل بواحد، هل اتّفقنا؟
      أومأت شهرزاد رأسها مبتسمة ابتسامة فوز وكأنّها تنظر بمكر للجزء الخائف والمكسور منها، عديم الثقة بها الّذي طالما وسوسها بأنّها لا تستحقّ السعادة، بينما قفز أنور خلفها فرحا بشروق ضحكتها ليكملا مغامرتهما نحو الطابق الأرضي من جديد.
- بما أنّك تحدّثتَ عن الطيور، هل بإمكاننا اقتناء طائر أو حيوان أليف ليؤنّس وحدتي حين تغادر للعمل؟
- بما أنّكِ تحدّثت عن الطبخ والتنظيف، هل بإمكاننا احضار خادمة؟ تكون جميلة ولها شعر طويل؟
- هل تريدني أن أدفعك من أعلى السلالم كي نصبح كلانا مشلولان؟
- ومن سيهتم بنا آنذاك؟!
- أمّي، لن تمانع.
- لا! إلّا أمّك، أرجوك!
- إذا أصمت، وأدفع...قال خادمة، يا للجرأة والوقاحة!
- حسنٌ، إليك نهاية السلالم، وذاك باب المخرج أمامنا، والغيث لم يرد الرحيل دون لقائك، فهل أنت مستعدّة للتبلّل؟
- مستعدّة!
      بسطت ذراعيها كجناحين لم يحلّقا منذ كسور عدّة، ورفعت رأسها للسماء تقابل بركة الرحمان على أهل المودّة. تارة تضحك باستحياء، وتارة تخجل من نظرات النّاس المختبئة من رزق الله. تصرخ كالطفل حين تدخل قطرة لعينها فتحكّها ثمّ تعيد الكرّة من جديد، وأنور خلفها يعتبر كرسيّها عربة سباق على حلبة زلقة يتحدّى عليها مهاراته في تفادي البرك والمطبّات خلال جو عاصف، وكأنّهما لم يكبرا يوما.
- هل تبلّلت كفاية؟
- بامتياز!
- هل نعود للمنزل؟
- هل توقّف المطر؟
- لا!
- إذن، لا!

زهرة فوشيا البنفسجيّةWhere stories live. Discover now